الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثاني

2488 - ( عن ابن عباس - رضي الله عنهما قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو يقول : رب أعني ولا تعن علي ، وانصرني ولا تنصر علي ، وامكر لي ولا تمكر علي ، واهدني ويسر الهدى لي ، وانصرني على من بغى علي ، رب اجعلني شاكرا لك ، ذاكرا لك ، راهبا لك ، مطواعا لك ، مخبتا إليك ، أواها منيبا . رب تقبل توبتي ، واغسل حوبتي ، وأجب دعوتي ، وثبت حجتي وسدد لساني ، واهد قلبي ، واسلل سخيمة صدري ) رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه .

التالي السابق


الفصل الثاني

2488 - ( عن ابن عباس قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو يقول ) بدل أو حال ، ( رب أعني ) أي وفقني لذكرك وشكرك وحسن عبادتك ، ( ولا تعن علي ) أي لا تغلب علي من يمنعني من طاعتك من شياطين الإنس والجن ، ( وانصرني ولا تنصر علي ) أي أغلبني على الكفار ولا تغلبهم علي أو انصرني على نفسي فإنها أعدى أعدائي ولا تنصر النفس الأمارة علي بأن أتبع الهوى وأترك الهدى ، ( وامكر لي ولا تمكر علي ) قال الطيبي : المكر الخداع وهو من الله إيقاع بلائه بأعدائه من حيث لا يشعرون ، وقيل : هو استدراج العبد بالطاعة فيتوهم أنها مقبولة وهي مردودة ، وقال ابن الملك : المكر الحيلة ، والفكر في دفع عدو بحيث لا يشعر به العدو فالمعنى اللهم اهدني إلى طريق دفع أعدائي عني ولا تهد عدوي إلى طريق دفعه إياي عن نفسه قال بعض العارفين في قوله تعالى : سنستدرجهم من حيث لا يعلمون يظهر لهم الكرامات حتى يظنوا أنهم أولياء الله ثم يأخذهم على غفلة وغرة ويميتهم على غفلة ، ( واهدني ) أي دلني على الخيرات أو على عيوب نفسي ، ( ويسر الهدى لي ) أي وسهل اتباع الهداية أو طرق الدلالة لي حتى لا أستثقل الطاعة ولا أشتغل عن العبادة ، ( وانصرني ) أي بالخصوص ، ( على من بغى علي ) أي ظلمني وتعدى علي قال تأكيد لأعني إلخ والصواب أنه تخصيص لقوله : وانصرني في الأول ، ( رب اجعلني لك ) قدم المتعلق للاهتمام والاختصاص أو لتحقيق مقام الإخلاص ، ( شاكرا ) أي على النعماء والآلاء ( لك ذاكرا ) في الأوقات والآناء ( لك راهبا ) أي خائفا في السراء والضراء وفي الحصن لك شكارا لك رهابا على وزن فعال بصيغة المبالغة ، وقال ابن حجر أي منقطعا عن الخلق وفيه أن هذا من لوازم معناه الأعم منه ومن غيره هو بإشارة الصوفية أشبه ، وأما معنى العبارة فما قدمناه مع أن الرهبانية منسوخة عن هذه الأمة ، ومراد الصوفية بالانقطاع إنما هو انصراف الهمة عن الخلق والتعلق بالحق وهذا تارة يصدر وينشأ من غاية الرهبة وتارة يصدر من غاية الرغبة .

وجمهورهم على أن العبادة والعزلة بوصف من جهة الرجاء والترغيب أفضل من حصول الخوف والترهيب ، ولهم مقام فوق ذلك وقد علم كل أناس مشربهم وكل قوم في منهاج مذهبهم ، ومرتبة الجامعية المحمدية هي أكمل المقامات العلية والحالات السنية كما تدل عليه الدعوات الإلهية والتضرعات البهية التي تنبئ عن كمال العبودية عند التجليات الربوبية ، ( لك مطواعا ) بكسر الميم مفعال للمبالغة أي كثير الطوع وهو الانقياد والطاعة وفي رواية ابن أبي شيبة مطيعا أي منقادا ، ( لك مخبتا ) أي خاضعا خاشعا متواضعا من الخبت وهو المطمئن من الأرض يقال أخبت الرجل إذا نزل الخبت ثم استعمل الخبت استعمال اللين والتواضع قال تعالى : وأخبتوا إلى ربهم أي اطمأنوا إلى ذكره أو سكنت نفوسهم إلى أمره ، وأقيم اللام مقام إلى لتفيد الاختصاص قال تعالى : وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ( إليك أواها ) أي متضرعا فعال للمبالغة من أوه تأويها وتأوه تأوها إذا قال : أوه ، أي قائلا كثيرا لفظ أوه ، وهو صوت الحزين ، أي اجعلني حزينا ومتفجعا على التفريط ، أو هو قول النادم من معصيته المقصر في طاعته ، وقيل : الأواه البكاء ( منيبا ) أي راجعا ، قيل : التوبة رجوع من المعصية إلى الطاعة والإنابة من الغفلة إلى الذكر والفكرة والأوبة من الغيبة إلى الحضور والمشاهدة قال الطيبي : وإنما اكتفي في قوله أواها منيبا بصلة واحدة لكون الإنابة لازمة للتأوه ورديفا له فكأنه شيء واحد ، ومنه قوله تعالى : إن إبراهيم لحليم أواه منيب اهـ . وتعقبه ابن حجر بما لا يصح ذكره .

[ ص: 1724 ] ( رب تقبل توبتي ) يجعلها صحيحة بشرائطها واستجماع آدابها فإنها لا تتخلف عن حيز القبول قال تعالى : وهو الذي يقبل التوبة عن عباده وأما قول ابن حجر : تكون نصوحا فلا أنكثها أبدا فموهم أنه يلزم من النصوح عدم النكث وليس كذلك قال تعالى : توبوا إلى الله توبة نصوحا بفتح النون ، أي بالغة في النصح وهو في الأصل صفة التائب فإنه ينصح نفسه بالتوبة وصفت به التوبة على الإسناد المجازي مبالغة ، وقرأ أبو بكر بضم النون وهو مصدر بمعنى النصح ، وتقديره ذات نصوح أو تنصح نصحا لأنفسكم ، وفسر نصوحا بصادقة وخالصة ، وأما ما اشتهر عند العامة أن المراد بالنصوح تائب مشهور فغير مراد بالآية إجماعا للمفسرين ، والحاصل أن العزم على عدم العود شرط في صحة التوبة لا عدم النكث على الصحيح خلافا لبعضهم ، وأما ما ورد مرفوعا أن التوبة النصوح أن يتوب ثم لا يعود إلى الذنب حتى يعود اللبن إلى الضرع فمحمول على كماله ، أو المراد منه حسن خاتمته ومآله ( واغسل حوبتي ) بفتح الحاء ويضم أي امح ذنبي قيل هي مصدر حبت أي أثمت ، تحوب حوبة وحوبا وحابة والحوب بالضم ، والحاب الإثم سمي بذلك لكونه مزجورا عنه ، إذ الحوب في الأصل لزجر الإبل ، وذكر المصدر دون الاسم وهو الحوب لأن الاستبراء من فعل الذنب أبلغ منه من نفس الذنب كذا قيل ، ويمكن أن يكون مراعاة للسجع وقد جاء في التنزيل " إنه كان حوبا كبيرا " ثم ذكر الغسل ليفيد إزالته بالكلية والتنزه والتقصي عنه كالتنزه عن القذر الذي يستنكف عن مجاورته ، وأما قول ابن حجر أي أزل آثامي بتبديلها حسنات فأمر خارج عن اللغة ومفهوم الحديث ، ( وأجب دعوتي ) أي دعائي ، وأما قول ابن حجر ذكر لأنه من فوائد قبول التوبة فموهم أنه لا تجاب دعوة غير التائب وليس الأمر كذلك لما صح من أن دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرا ، وفي رواية ولو كان كافرا ، ( وثبت حجتي ) أي على أعدائك في الدنيا والعقبى أو ثبت قولي وتصديقي في الدنيا وعند جواب الملكين ، ( وسدد ) أي صوب وقوم ، ( لساني ) حتى لا ينطق إلا بالصدق ولا يتكلم إلا بالحق ، ( واهد قلبي ) أي إلى معرفة ربي ، ( واسلل ) بضم اللام الأولى أي أخرج ( سخيمة صدري ) أي غشه وغله وحقده وحسده ونحوها ، مما ينشأ من الصدر ويسكن في القلب من مساوئ الأخلاق ، وفي رواية ابن أبي شيبة قلبي بدل صدري قيل السخيمة الضغن والحقد من السخمة وهو السواد ومنه سخام القدر وقيل السخيمة الضغينة وإضافتها إلى الصدر لأن مبدأها القوة الغضبية التي في القلب الذي هو في الصدر ، وسلها إخراجها وتنقية الصدر منها من سل السيف إذا أخرجه من الغمد قال الطيبي : فإن قلت ما الفائدة في ترك العاطف في قوله رب اجعلني إلى منيبا وفي الإتيان به في القرائن اللاحقة قلت : أما الترك فللتعداد والإحصاء ليدل على أنه ما كان لله غير معدود ولا داخل تحت محدود فينعطف بعضها على بعض ، ولذا قدم الصلة على متعلقاتها وأما الإتيان بالعاطف فيما كان للعبد فلانضباطه اهـ .

وتعقبه ابن حجر بما لا طائل تحته عند تأمله وإن قال فتأمله فإنه ينبغي الاعتناء بتأمله ( رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه ) وقال الجزري رواه الأربعة وابن حبان والحاكم وابن أبي شيبة .




الخدمات العلمية