الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
2731 - وعنه قال : كان الناس إذا رأوا أول الثمرة جاءوا به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا أخذه قال : " اللهم بارك لنا في ثمرنا ، وبارك لنا في مدينتنا ، وبارك لنا في صاعنا ، وبارك لنا في مدنا ، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك ، وإني عبدك ونبيك ، وإنه دعاك لمكة وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه " . ثم قال : يدعو أصغر وليد له ، فيعطيه ذلك الثمر . رواه مسلم .

التالي السابق


2731 - ( وعنه ) : أي عن أبي هريرة ( قال : كان الناس ) : أي الصحابة ( إذا رأوا أول الثمرة ) : وهو الذي يسمى الباكورة والأنموذج ( جاءوا به ) : أي : بأول التمر وفي نسخة " بها " والتأنيث اكتسب من المضاف إليه ( إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ) : أي طلبا للبركة فيما حدد الله به من النعمة ( فإذا أخذه قال : " اللهم بارك لنا في ثمرنا ) أي بركة حسية ومعنوية ( وبارك لنا في مدينتنا ) ، أي في ذاتها من جهة سعتها وسعة أهلها ، وقد استجاب الله دعاءه - عليه الصلاة والسلام - بأن وسع نفوس المسجد وما حوله من المدينة ، وكثر الخلق فيها ; حتى عد من الفرس المعد للقتال المهيأ بهما في زمن عمر أربعون ألف فرس ، والحاصل أن المراد بالبركة هنا ما يشمل الدنيوية والأخروية والحسية . ( وبارك لنا في صاعنا ) أي : فيما يكال به كمية وكيفية ( وبارك لنا في مدنا ) ; : وهو كيل دون الصاع ( اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك ) : آثره على رسولك ; لأن مقام النبوة يختص بالحق - تعالى - ولذا فضله ابن عبد السلام على مقام الرسالة ، يعني أن نبوة الرسول أفضل من رسالته ; لأن تلك تتعلق بالحق وهذه بالخلق .

وأما قول ابن حجر - رحمه الله : لكنه مردود ; لأن النبي الرسول أفضل من النبي غير الرسول ; لأن هذا فيه ما فيه ذاك ، وزيادة خطأ من وجهين في تعليله مع ما فيه من تعارض وتناقض بين نقلية أن الإجماع منعقد على أن الرسول أفضل من النبي الذي هو غير رسول ، بناء على أن النبي هو الذي أوحي إليه بشرع سواء أمر بتبليغه أم لا . والرسول هو المأمور بالتبليغ ، فالرسول جامع بين الوصفين من الكمال في نفسه والإكمال لغيره ، ولا شك أن التكميل أكبر مرتبة من الكمال في مقام التحصيل ، نعم النبوة من حيث إنه أخذ الفيض من الحق أفضل من الرحمة ، من حيث إنه إيصال له إلى الخلق ; ولذا قال بعض الصوفية : الولاية أفضل من النبوة بتأويل أن ولاية النبي ، وهو معنى النبوة أشرف من رسالته ، والتحقيق - والله ولي التوفيق - أن مرتبة الرسالة التي هي مقام جمع الجمع حيث لا تحجبه الكثرة عن الوحدة ، ولا تحجزه الوحدة عن الكثرة أتم وأكمل من النبوة التي هي مقام الجمع الصرف المتخلص عن مقام التفرقة ، بل قد يقال : النبي بمنزلة العابد المشتغل بحال نفسه ، والرسول في مرتبة العالم المجتهد في أمره وأمر غيره ، ويشهد له قوله - عليه الصلاة والسلام : ( فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ) . ويؤيده حديث : " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل " وإن تكلم في إسناده ، وأما ما ذهب إليه ابن الهمام - رحمه الله - تبعا لغيره في القول بالترادف بين النبي والرسول ، فيرده قوله - تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي وحديث أحمد في مسنده إن الرسل من الأنبياء ثلاثمائة وبضعة عشر جما غفيرا ( وإني عبدك ونبيك ) : ولعله ترك وحبيبك تواضعا منه - عليه الصلاة والسلام - أو نسيانا من الراوي ، أو وقع هذا قبل العلم بأنه حبيب ( وإنه دعاك لمكة ) : أي : بقوله : فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ( وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله ) : أي : بمثل ذلك المثل ( معه ) : والمعنى بضعف ما دعا إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ( ثم قال ) : أي أبو هريرة ( يدعو ) : أي النبي - صلى الله عليه وسلم - قال السيد جمال الدين في المصابيح قال : ثم يدعو ، وأظنه الصواب ( أصغر وليد ) : أي مولود ولو قنا . روي مكبرا وقيل مصغرا أي ولد صغير ( له ) قال في المفاتيح ، يعني إذا فرغ من الدعاء يدعو أصغر طفل من أهل بيته ، أو قيل من أمته ( فيعطيه ) : أي الولد ( ذلك الثمر ) : ليفرح ذلك الطفل .

قال الطيبي - رحمه الله - : وفي رواية : " ثم يعطي أصغر وليد يحضره من الولدان " اهـ . [ ص: 1875 ] وهو قابل التقييد والإطلاق ، ويمكن حمله على التعدد ، قيل : تخصيص الصغير لشدة فرح الولدان بالباكورة ، وفي أنها حديث العهد بالإيجاد ، وقيل : وفيه تنبيه على أن النفوس الكاملة لا ينبغي لها تناول شيء من أنواع الباكورة إلا بعدما يعم وجودها ويتم شهودها ، ويقدر كل أحد على أكلها .

قال الطيبي : وهذه الرواية مطلقة ، ما في المتن مقيد ، فإما أن يؤول ما في المتن ، وهو الأنسب ، أو يحمل المطلق على المقيد .

وقال عصام الدين - رحمه الله - في شرح الشائل ، وقوله : يدعو أصغر وليد ليستمد بسرور قلبه على إجابة دعائه ، وهذا ألطف مما قالوا من أن ذلك لشدة المناسبة بين الباكورة والوليد في قرب عهدهما من الإيجاد .

قلت : وفيه بحث مع أنه لا منع من الجمع قال : وفي بعض الروايات ثم يدعو أصغر وليد له ، ولعل قوله " له " متعلق بيدعو ، وليس قيدا للوليد أي : يدعو للتمر فلا يخالف هذه الرواية بالإطلاق والتقييد اهـ .

وبعده لا يخفى ، والتحقيق أن الروايتين محمولتان على الحالتين ، والمعنى أنه إذا كان عنده أو قريبا منه وليد له أعطاه ، أو وليد آخر من غير أهله أعطاه ، إذ لا شك أنهما لو اجتمعا لشارك بينهما ، نعم إذا لم يكن أحد حاضرا عنده فلا شبهة أنه ينادي أحدا من أولاد أهله ; لأنه أحق ببره من غيره . ( رواه مسلم ) .




الخدمات العلمية