الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
2732 - وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حراما ، وإني حرمت المدينة حراما ما بين مأزميها أن لا يهراق فيها دم ، ولا يحمل فيها سلاح لقتال ، ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف . رواه مسلم .

التالي السابق


2732 - ( وعن أبي سعيد ) : أي الخدري ( عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن إبراهيم حرم مكة ) أي أظهر تحريمها ( فجعلها حراما ) ، أي بينها وعينها بعد اندراسها ( وإني حرمت المدينة حراما ) نصب على المصدر إما " لحرمت " على غير لفظه ، أو على حذف الزوائد أي لفعل مقدر أي : حرمت فحرمت ( ما بين مأزميها ) : مفعول ثان كذا قيل ، والأظهر العكس ، والمأزم بالفتح وسكون الهمزة ويبدل وبكسر الزاي ، الموضع الضيق بين الجبال ، حيث يلتقي بعضها ببعض ويتسع ما وراءه ، والمراد ما بين جانبي المدينة وطرفيها ( أن لا يهراق ) : بفتح الهاء ويسكن أي بأن لا يراق ( فيها دم ) ، لأن إراقة دم المسلم فيها أقبح من غيرها . قيل : إنه مفعول حرمت على زيادة لا مثل : فلا يعلم أهل الكتاب ) أي لكي يعلم أو على المفعول له أي : لئلا يهراق أو يكون تفسيرا لما حرم أي : هو أن لا يسفك بها دم ، والمراد من نهي إراقة الدم النهي عن القتال المفضي إلى إراقة الدم ، لأن إراقة الدم ، الحرام ممنوع عنه على الإطلاق ، والمباح منه لم نجد فيه اختلافا يعتد به عند العلماء إلا في حرم مكة ، وقيل : لا يسفك دم ; حرام لأن سفك الدم الحرام في مكة والمدينة أشد تحريما . ( ولا يحمل فيها سلاح لقتال ) : هذا يؤيد القول الثاني ; لأن التأسيس أولى من التأكيد ( ولا تخبط ) بالتأنيث والتذكير أي لا تقطع ( فيها شجرة ) : وقيل : لا تضرب ليسقط أوراقها وهو الأظهر لقوله : ( إلا لعلف ) : بتحريك اللام وإسكانها .

في النهاية : بإسكان اللام مصدر علفت علفا ، وبالفتح اسم الحشيش والتبن والشعير ونحوها ، وفيه جواز أخذ أوراق الشجر للعلف ( رواه مسلم ) .

قال التوربشتي ، صاحب شرح مسلم ، أول شراح المصابيح : قوله - عليه الصلاة والسلام - : " حرمت المدينة " ، أراد بذلك تحريم التعظيم دون ما عداه من الأحكام المتعلقة بالحرم ، ومن الدليل عليه قوله - عليه الصلاة [ ص: 1876 ] والسلام في حديث مسلم : " لا يتخبط منها شجرة إلا لعلف " وأشجار حرم مكة لا يجوز خبطها بحال ، وأما صيد المدينة وإن رأى تحريمه نفر يسير من الصحابة فإن الجمهور منهم لم ينكروا اصطياد الطيور بالمدينة ، ولم يبلغنا فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي من طريق يعتمد عليه . اهـ . كلامه .

وأيضا قال أصحابنا : قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق : " أحرم " من الحرمة لا من التحريم ; بمعنى أعظم المدينة جمعا بين الدليلين بقدر الإمكان ، وبه نقول فنعظمها ونوقرها أشد التوقير والتعظيم ; لكن لا نقول بالتحريم ; لعدم القاطع احترازا عن الجراءة على تحريم ما أحل الله - تعالى - . فإن قيل : إنه شبه التحريم بمكة فكيف يصح الحمل على التعظيم ؟ أجيب : بأنه لا يخلو عن أمرين : إما أن يكون المراد التشبيه من كل الوجوه ، أو من وجه دون وجه ، فإن كان الأول ; فلا يصح الحمل على ما حملتم عليه قوله : " كتحريم إبراهيم مكة " فقلتم في الحرمة فقط لا في وجوب الجزاء في المشهور من المذهب ، وإن قلتم بوجوب الجزاء فلا نسلم ؟ لأنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة - رضي الله عنهم - إلا عن سعد فقط ، وعن عمر في قوله : وهو سلب القاطع والصائد ، وقد أجمعنا أن ذلك لا يجب في حرم مكة ، فكيف يجب هناك ؟ وإن كان الثاني فكما حملتم على شيء ساغ لنا أن يحمل على آخر ، وهذا لأن تشبيه الشيء بالشيء يصح من وجه واحد ، وإن كان لا يشبهه من كل الوجوه كما في قوله - تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم يعني : من وجه واحد ، وهو تخليقه بغير أب ، فكذلك نقول : إن تشبيهه بمكة في تحريم التعظيم فقط لا في التحريم الذي يتعلق به أحكام أخر ; لأن ذلك يوجب التعارض بين الأحاديث ، وبالحمل على ما قلنا يدفع ، ودفعه هو المطلوب مهما أمكن بالإجماع ، فصار المصير إلى ما ذهبنا إليه أولى وأرجح بلا نزاع ، ما أبعد من استبعد وهذا الحمل مع وجود فعل ذلك غير واحد من الأئمة في كل موضع ، فمنها ما أجمع عليه الأئمة الثلاثة - غير الشافعي - في حديث الزبير قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إن صيدوج وعضاهة حرم محرم لله " . رواه أبو داود ، وقد اتفق الثلاثة على عدم تحريم صيد وج وقطع شجره ، مع ما في الحديث من التأكيد ، وأولوه أو حملوه على النسخ ، فكذا هذا مثله . فالجواب الذي لهم في ذلك هو جوابنا في هذا .

ولنورد بعض الأحاديث التي نتمسك على عدم تحريمها . فمنها : عن أنس - رضي الله عنه - قال : كان لأبي طلحة ابن من أم سليم ، يقال له أبو عمير ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضاحكه إذا دخل ، وكان له طير ، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى أبا عمير حزينا فقال : " ما شأن أبي عمير ؟ " فقيل : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات نغيره ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا أبا عمير ما فعل النغير " قال ابن الأثير : هذا حديث صحيح قد أخرجه البخاري ، ومسلم في كتابيهما ، وكذا الإمام أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه .

قال الطحاوي : فهذا كان في المدينة ، ولو كان حكم صيدها حكم صيد مكة لما أطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حبس النغير ، ولا اللعب به كما يطلق ذلك بمكة .

وقال التوربشتي : لو كان حراما لم يسكت عنه في وضع الحاجة . فإن قيل : يجوز أن يكون بقباء ، وذلك ليس من الحرم . قيل له : هب أنه كما ذكرته ; ولكن لم قلت أن قباء ليست من الحرم ; لأنه روى غير واحد في تحديد حرمها بريدا في بريد ، والبريد : أربع فراسخ ، وقباء لا تبلغ من المدينة فرسخا . فإن قيل : يحتمل أن حديث النغير كان قبل تحريم المدينة ، أو أنه صاد من الحل . قيل له : هذا احتمال تأويل ، وتأويل الراوي ليس بحجة ، فكيف تأويل غيره ؟ وقوله : أو صاده من الحل لا يلزمنا على أصلنا ، لأن صيد الحل إذا دخل الحرم ثبت له حكم الحرم عندنا ، فلا يكون حجة علينا بل عليهم .

قال النووي - رحمه الله : طاعنا فينا ، ولكن أصلهم هذا ضعيف فيرد عليهم اهـ . [ ص: 1877 ] وكيف يصح قوله هذا ، مع أن استدلالنا بالنص واستدلالهم بالقياس فلا جرم أن يقدم النص على القياس ، ثم إنهم قاسوا حكم الصيد على مسألة الاسترقاق ، فإن الإسلام يمنعه ولا يرفعه ، حتى إذا ثبت حال الكفر ثم طرأ إسلام لا يرتفع منه حق الشرع ، ولنا : أنه لما حصل في الحرم صار من صيده ، فلا يجوز التعرض له ، كما إذا دخل هو بنفسه ، وما كان كذلك لا يجوز له التعرض بالنص ; لأنه لا يراد بصيد الحرم إلا ما كان حالا فيه ، وهذا فيه فوجب ترك التعرض له لإطلاق النص لحرمة الحرم ولم يوجد مثله في الرق .

ومذهبنا مروي عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وعائشة - رضي الله عنهم - وكفى بهم قدوة ، وتقليدهم أولى من القياس باتفاق الناس ، فعلمنا مما ذكرنا أن دليلهم أضعف أصلا .

ومنها : في الصحيحين ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أخذه كان نخل وقبور للمشركين وخرب ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنخل فقطع . . الحديث . وقوله : أخذه أي مكان المسجد ، فعندهم لا يجوز قطع نخل الحرم ، فلو كان حرما لما أمر بالقطع على أصلهم .

ومنها : ما روى ابن مسعود ، وابن زبالة وغيره ، عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لمسلمة : " أما إنك لو كنت تصيده بالعقيق لشيعتك إذا ذهبت وتلقيتك إذا جئت فإني أحب العقيق " روى ابن أبي شيبة نحوه ، ورواه الطبراني بسند حسنه المنذري قال في النخبة : وهذا تصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - جواز صيد المدينة فإن الأئمة اتفقوا على أن العقيق من المدينة ، ولم يخالف فيه مخالف ، وزيادة ترغيب النبي - صلى الله عليه وسلم - في صيدها عن غيرها والله - تعالى - أعلم لكون لحمها تربى من نبات المدينة فكان للحمها مزية على لحوم الصيد الذي ليس منها ، كما أن لثمرها مزية على بقية الأثمار ، ويدل عليه ما في حديث ابن أبي شيبة عن سلمة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أين كنت " قلت في الصيد قال : " أين " فأخبرته بالناحية التي كنت فيها فكأنه كره تلك الناحية وقال : " لو كنت تذهب إلى العقيق " الحديث ، ومنها ما روى الطبراني في الأوسط وفيه كثير بن زيد وثقه أحمد وغيره من حديث أنس مرفوعا : أحد جبل يحبنا ونحبه فإذا جئتموه فكلوا من شجرة ولو من عضاهه ، وروى ابن أبي شيبة مثله والأكل منها لا يصح إلا بقطع أو قلع ، وقد اتفقنا على جواز ذلك في الحرم المكي فعلم أن المراد من المنع في غير أحد منع استحباب لا تحريم ، أو كان ينهى عن ذلك للبيع لا للأكل لئلا يضيق عليهم ولتتوفر الصيود بها فنهاهم على وجه التشديد إرادة للتوسعة عليهم في الاصطياد والانتفاع به ، كما قال المنازعون في تأويل حديث صيد وج وأشجاره وهو ما قاله في شرح السنة : حماه أي وادي وج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظرا لعامة المسلمين لإبل الصدقة ونعم الجزية ، فيجوز الاصطياد فيه لأن المقصود منع الكلأ من العامة ، وقال الخطابي في معالم السنن : ولا أعلم لتحريمه - صلى الله عليه وسلم - وجا معنى إلا أن يكون على سبيل الحمى لنوع من منافع المسلمين ، إلى أن قال ما حاصله وقد يحتمل أنه كان ذلك للتحريم ثم نسخ ، فكما أولوا ذلك الحديث لنا أن نئول هذا ، ثم إن صح مراد التحريم فقال الطحاوي : يحتمل أن يكون سبب النهي عن صيد المدينة وقطع شجرها كون الهجرة إليها واجبة فكان يفعله بقاء لزينتها ليستطيبوها ويألفوها ، لأن بقاء ذلك مما يزيد في زينتها ويدعو إليها كما روى ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن هضم آطام المدينة فإنها من زينتها ، فلما انقطعت الهجرة زال ذلك ، فكذا هذا ، فإن قيل فصار الأمر محتملا ؛ أجيب فعاد على ما كان وهو عدم التحريم لأنه الأصل ، وإنما أطنبنا الكلام مع إنه خلاف المراد ردا للجاهل بعلم الإمام الأعظم والمجتهد الأعلم الذي صار عياله في الفقه جميع الفقهاء ، وقد انفرد بكونه تابعيا من بين المجتهدين من العلماء حيث قال في حقه : لم يبلغه حديث المنع أو بلغه فخالفه بالرأي والدفع ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم . [ ص: 1878 ]



الخدمات العلمية