الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
24 - وعن معاذ قال : كنت ردف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حمار ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل ، فقال : ( يا معاذ ، هل تدري ما حق الله على عباده ؟ وما حق العباد على الله ؟ ) قلت : الله ورسوله أعلم . قال : ( فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا ) فقلت : يا رسول الله ، أفلا أبشر به الناس ؟ قال : لا تبشرهم فيتكلوا ) متفق عليه .

التالي السابق


24 - ( وعن معاذ ) أي ابن جبل ، يكنى أبا عبد الله الأنصاري الخزرجي ، وهو أحد السبعين الذين شهدوا العقبة من الأنصار ، وشهد بدرا وما بعدها من المشاهد ، وبعثه إلى اليمن قاضيا ومعلما ، روى عنه عمر ، وابن عمر ، وابن عباس ، وخلق سواهم ، مات وله ثمان وثلاثون سنة . ( قال : كنت ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - ) : وهو بكسر الراء وسكون الدال الذي يركب خلف الراكب من الردف وهو العجز ، أي كنت رديفه ( على حمار ) إشارة إلى كمال التذكر بالقصة ، وإشعار بتواضعه عليه الصلاة والسلام ( ليس بيني وبينه ) : أراد شدة القرب فيكون الضبط أكثر ( إلا مؤخرة الرحل ) : استثناء مفرغ ، وهو العود الذي يكون خلف الراكب - بضم الميم بعدها همزة ساكنة - وقد تبدل - ثم خاء مكسورة ، هذا هو الصحيح ، وفيه لغة أخرى بفتح الهمزة والخاء المشددة المكسورة وقد تفتح . ( فقال : يا معاذ هل تدري ) أي أتعرف ( ما حق الله على عباده ) قال الزمخشري : الدراية معرفة تحصل بضرب من الخداع ؛ ولذا لا يوصف الباري بها أي ولا بالمعرفة ؛ لاستدعائها سبق جهل بخلاف العلم ، أو لتعلق المعرفة بالجزئيات ، والله تعالى يعلم الجزئيات والكليات ( وما حق العباد على الله ؟ ) حق الله بمعنى الواجب واللازم ، وحق العباد بمعنى الجدير واللائق ؛ لأن الإحسان إلى من يتخذ ربا سواه جدير في الحكمة أن يفعله ، ولا يجب على الله شيء - خلافا للمعتزلة ، وقيل : حق العباد ما وعدهم به ، ومن صفة وعده أن يكون واجب الإنجاز ، فهو حق بوعده الحق . وقال النووي : حق العباد على جهة المشاكلة والمقابلة لحقه عليهم ، ويجوز أن يكون من قول الرجل حقك واجب علي ، أي قيامي به متأكد ، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام ) ( قلت : الله ورسوله أعلم . قال : فإن ) أي إذا فوضت فاعلم أن ( حق الله على العباد أن يعبدوه ) أي يوحدوه ، أو يقوموا بعبادته وعبوديته بمقتضى إلهيته وربوبيته ( ولا يشركوا به شيئا ) : الواو لمطلق الجمع ، وهو تأكيد أو تخصيص ( وحق العباد ) : بالنصب ، ويجوز رفعه ( على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا ) : من الأشياء أو الإشراك ، أي عذابا مخلدا ، فلا ينافي دخول جماعة النار من عصاة هذه الأمة ، كما ثبت به الأحاديث الصحيحة بل المتواترة ، ومن ثمة أوجبوا الإيمان به .

فإن قلت : كيف هذا مع قول البيضاوي : وليس بحتم عندنا أن يدخل النار أحد من الأمة ، بل العفو عن الجميع بموجب وعده ، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء يغفر الذنوب جميعا - مرجو ؟ قلت : البيضاوي لم ينف الدخول ، وإنما نفى تحتمه ، وجوز العفو عن الجميع من حيث عموم الوعد ، وأما من حيث إخباره - عليه الصلاة والسلام - بأنه لا بد من دخول جمع من العصاة النار فلم يتعرض له البيضاوي ، على أنه قال : اللازم على الوعد المذكور عموم العفو ، وهو لا [ ص: 98 ] يستلزم عدم الدخول ؛ لجواز العفو عن البعض بعد الدخول وقبل استيفاء العقاب اهـ . وفيه مع ذلك نظر ؛ لأن النصوص دلت على دخول جمع النار وتعذيبهم بها ، وقد اسودت أبدانهم حتى صارت كالفحم ، فيجب الإيمان بذلك ( فقلت : يا رسول الله أفلا أبشر به الناس ) أي عمومهم ، والفاء في جواب الشرط المقدر ، أي إذا كان كذلك أفلا أبشرهم بما ذكرت من حق العباد ؟ والبشارة : إيصال خبر إلى أحد يظهر أثر السرور منه على بشرته ، وأما قوله تعالى : ( فبشرهم بعذاب أليم ) فتهكم أو تجريد . ( قال : لا تبشرهم ) : قيل : بعض النهي مخصوص ببعض الناس ، واحتج البخاري على أن للعالم أن يخص بالعلم قوما دون قوم كراهة ألا يفهموا ، وقد يتخذ أمثال هذه الأحاديث البطلة والمباحية ذريعة إلى ترك التكاليف ورفع الأحكام ، وذلك يفضي إلى خراب الدنيا بعد خراب العقبى ( فيتكلوا ) : منصوب في جواب النهي بتقدير " أن " بعد الفاء ، أي يعتمدوا ويتركوا الاجتهاد في حق الله تعالى ، فالنهي منصب على السبب والمسبب معا ، أي لا يكن منك تبشير فاتكال منهم ، وإنما رواه معاذ مع كونه منهيا عنه ؛ لأنه علم منه أن هذا الإخبار يتغير بتغير الزمان والأحوال والقوم يومئذ كانوا حديثي العهد بالإسلام لم يعتادوا تكاليفه ، فلما تثبتوا واستقاموا أخبرهم ، أو رواه بعد ورود الأمر بالتبليغ والوعيد على الكتمان ، ثم إن معاذا مع جلالة قدره لا يخفى عليه ثواب نشر العلم ووبال كتمه ، فرأى التحدث واجبا في الجملة ، ويؤيده ما روي في الحديث الذي يتلوه ، فأخبر معاذ عند موته تأثما ، وقيل : إنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذا عن التبشير ، وأخبر به معاذ بعد تبشير النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمنين ، فلا يلزم ارتكاب المنهي ؛ لأن النهي عن التبشير لا عن الإخبار . ( متفق عليه ) : ورواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي .




الخدمات العلمية