الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( 12 ) باب الشفعة

الفصل الأول

2961 - عن جابر - رضي الله عنه - قال : قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل ما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة . رواه البخاري .

التالي السابق


( 12 ) باب الشفعة

بضم أولها ، في المغرب : الشفعة اسم للملك المشفوع بملكك من قولهم : كان وترا فشفعته بآخر أي جعلته زوجا لها ، ونظيرها الأكلة واللقمة في أن كل واحدة منهما فعلة بمعنى مفعول هذا أصلها ، ثم جعل عبارة عن تملك مخصوص أي : بما قام على المشترى ، وقد جمعهما الشعبي في قوله : من بيعت شفعته وهو حاضر فلم يطلب ذلك فلا شفعة له .

الفصل الأول

2961 - ( عن جابر قال : قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل ما لم يقسم ) فيه بيان ثبوت الشفعة للشريك فيما لم يقسم أعم من أن يكون محتمل القسمة ، كالدور والأراضي أولا . وعند الشافعي - رحمه الله - : لا شفعة فيما لا يحتمل القسمة . وهذا الحديث بعمومه حجة عليه ، كذا ذكره ابن الملك ، وفيه أيضا أن تخصيص ما لم يقسم بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه ( فإذا وقعت الحدود ) أي : إذا قسم الملك المشترى ووقعت الحدود أي : الحواجز والنهايات قال ابن الملك : أي : عينت وظهر كل واحد منها بالقسمة والإفراز ( وصرفت ) بصيغة المجهول أي : بينت ( الطرق ) بأن تعددت ، وحصل لكل نصيب طريق مخصوص ( فلا شفعة ) أي : بعد القسمة ، فعلى هذا تكون الشفعة للشريك دون الجار ، وهو مذهب الشافعي ، وأما من يرى الشفعة للجوار لأحاديث وردت في ذلك ، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه يقول : " إن قوله : فإذا وقعت الحدود ليس من الحديث ; بل شيء زاده جابر فأوصله بما حكاه ، والحمل على ذلك أولى توفيقا بين الأحاديث ، وأما ما روي عن جابر أنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا وقعت الحدود لا حق في المبيع لارتفاعها بصرف الطرق " كذا حققه بعض علمائنا من شراح المصابيح . قال المالكي : معنى صرفت الطرق أي : خلصت وبينت واشتقاقه من الصرف وهو الخالص من كل شيء . ( رواه البخاري ) .

قال التوربشتي - رحمه الله - : " هذا الحديث ما أخرجه البخاري بهذا اللفظ ، أي : بلفظ صاحب المصابيح وهو الشفعة فيما لم يقسم إلخ ، ولم يخرجه مسلم ، وإنما أخرج حديثه الآخر الذي يتلو هذا الحديث ، وكان على مؤلف المصابيح لما أورد الحديث في قسم هو مما أخرجه الشيخان أو أحدهما أن لا يعدل في اللفظ عن كتاب البخاري ، فإن بين الصيغتين بونا بعيدا ، ولا يكاد يتسامح فيه ذو عناية بعلم الحديث ، وقد روي هذا الحديث أيضا في غير الكتابين عن أبي هريرة نحو ما رواه البخاري عن جابر قال القاضي : " هذا الحديث مذكور في مسند الأمام أبي عبد الله محمد الشافعي ، كذا الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة ، وفي صحيح البخاري : كذا قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة إلخ . فاختار الشيخ عبارته إلا أنه بدل قوله : " قضى بالشفعة فيما لم يقسم " ، بقوله : " قال : الشفعة فيما لم يقسم " ، لما لم يجد بينهما مزيد تفاوت في المعنى . وقد صحت الرواية بهذه العبارة ، وبه اندفع اعتراض من شنع عليه .

[ ص: 1981 ] فإن قلت : كيف سويت بين العبارتين وما ذكره الشيخ يقتضي الحصر عرفا ، وما أورده البخاري لا يقتضيه لجواز أن يكون حكاية حال واقعة ، وقضاء في قضية مخصوصة ؟ قلت : كفى لدفع هذا الاحتمال ما ذكر عقيبه ، ورتب عليه بحرف التعقيب ، ولا يصح أن يقال : أنه ليس من الحديث ، بل شيء زاده الراوي فأوصله بما حكاه لأن ذلك يكون تلبيسا وتدليسا ، ومنصب هذا الراوي والأئمة الذين دونوه وساقوا الرواية بهذه العبارة إليه أعلى من أن يتصور في شأنهم أمثال ذلك ، والحديث كما ترى يدل بمنطوقه صريحا على أن الشفعة في مشترك مشاع ، لم يقسم بعد فإذا قسم وتميزت الحقوق لم يبق للشفعة مجال ، فعلى هذا تكون الشفعة للشريك دون الجار ، وهو مذهب أكثر أهل العلم ، كعمر ، وعثمان ، وابن المسيب ، وسليمان بن يسار ، وعمر بن عبد العزيز ، والزهري ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وربيعة بن أبي عبد الرحمن من التابعين ، والأوزاعي ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور - رضي الله تعالى عنهم - ممن بعدهم ، وقوم نزر من الصحابة ومن بعدهم مالوا إلى ثبوتها للجار ، واحتجوا بما روى البخاري ، عن أبي رافع : " الجار أحق بسقبه " .

قال الطيبي - رحمه الله - قوله : " لما لم يجد بينهما مزيد تفاوت في المعنى إلخ ، لا يرفع الإنكار لأن أهل هذه الصنعة صرحوا بأن القائل إذا قال : رواه البخاري أو مسلم مثلا جاز له الرواية بالمعنى ، وأما إذا قال : في كتاب فلان كذا كذا لم يجز له أن يعدل عن صريح لفظه ، وقد ذكر الشيخ في خطبة المصابيح . وأعني بالصحاح ما أورده الشيخان في جامعيهما أو أحدهما ، وأما قوله : كفى لدفع هذا الاحتمال إلخ ، ففيه بحث لأن الحصر هاهنا ليس بالأداة والتقديم وتعريف الخبر ، بل بحسب المفهوم ، وقوله : الشفعة فيما لم يقسم مفهومه لا شفعة فيما قسم ، فيكون ما بعده بيانا له وتقريرا ، ومفهوم قوله : قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل ما لم يقسم لم يقض فيما قسم ، فبينهما بون .




الخدمات العلمية