الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( 15 ) باب العدة

الفصل الأول

3324 - عن أبي سلمة ، عن فاطمة بنت قيس - رضي الله عنها - أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب ، فأرسل إليها وكيله الشعير فسخطته ، فقال : والله ، ما لك علينا من شيء . فجاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له . فقال : " ليس لك نفقة " . فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ، ثم قال : " تلك امرأة يغشاها أصحابي ، اعتدي عند ابن أم مكتوم ، فإنه رجل أعمى ، تضعين ثيابك فإذا حللت فآذنيني . قالت : فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني . فقال : " أما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ، وأما معاوية فصعلوك لا مال له ، انكحي أسامة بن زيد ، فكرهته ، ثم قال : " انكحي أسامة " فنكحته ، فجعل الله فيه خيرا واغتبطت . وفي رواية عنها : " فأما أبو جهم فرجل ضراب للنساء . رواه مسلم . وفي رواية : أن زوجها طلقها ثلاثا ، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا " .

التالي السابق


باب العدة

هي في اللغة
الإحصاء ، يقال : عددت الشيء عدة أحصيته إحصاء ، ويطلق أيضا على المعدود ، وفي الشرع تربص يلزم المرأة عند زوال النكاح المتأكد بالدخول ، أو ما يقوم مقامه من الخلوة والموت . قال ابن الهمام : وينبغي أن يزاد وشبهته بالجر عطفا على النكاح ، قلت : فكأنهم أرادوا بالنكاح حقيقته وحكمه ، ومن المعلوم أن الطلاق قبل الدخول لا تجب فيه العدة لقوله تعالى : ( إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها ) .

الفصل الأول

3324 - ( عن أبي سلمة ) : قال المؤلف : هو أحد الفقهاء السبعة المشهورين بالفقه في المدينة في قول ، ومن مشاهير التابعين وأعلامهم ( عن فاطمة بنت قيس ) : أي القرشية ، أخت الضحاك كانت من المهاجرات الأول ، وكانت ذات جمال وعقل وكمال . ( أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة ) : بهمزة وصل وفتح موحدة وتشديد فوقية . قال القاضي : أي : الطلقات الثلاث أو الطلقة الثالثة فإنها بتة من حيث إنها قاطعة لعلقة النكاح ، اهـ . والمراد هنا الأول لما سيأتي أن زوجها طلقها ثلاثا ( وهو ) : أي : أبو عمرو ( غائب ، فأرسل إليها وكيله الشعير ) : أي : للنفقة وفي رواية بشعير ( فسخطته ) : بكسر الخاء ، وفي نسخة فتسخطته من باب التفعل أي : استقلته ، يقال : سخطه أي : استقله . ولم يرض به ذكره الطيبي . وفي المفاتيح : أي : ما رضيت به لكونه شعيرا ، أو لكونه قليلا انتهى . ويمكن أن يكون من باب الحذف والإيصال ، والضمير يرجع إلى الوكيل أي : وغضبت على الوكيل بإرساله الشعير قليلا أو كثيرا : ( فقال ) : أي : الوكيل ( والله ما لك علينا من شيء ) : أي : لأنك بائنة أو من شيء غير الشعير ( فجاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له . فقال : " ليس لك نفقة ) : أي : عليه لكونه غير مأمور ، وقيل : المراد نفي النفقة التي تريدها منه وهو الأجود ( فأمرها ) وفي رواية : وأمرها ( أن تعتد في بيت أم شريك ) : قال النووي - رحمه الله - : اختلفوا في المطلقة الحامل هل لها السكنى والنفقة ؟ فقال عمر - رضي الله تعالى عنه - وأبو حنيفة - رحمه الله - وآخرون : لها السكنى والنفقة لقوله تعالى جل شأنه : ( أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم )

[ ص: 2176 ] وأما النفقة فلأنها محبوسة عليه ، وقد قال عمر : لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة . أقول : وفي المدارك لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لعلها نسيت أو شبه لها ، سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لها السكنى والنفقة " . قال ابن الملك : وكان ذلك بمحضر من الصحابة يعني فيكون ذلك بمنزلة الإجماع ، وقال ابن عباس وأحمد : لا سكنى لها ولا نفقة لهذا الحديث ، وقال مالك والشافعي وآخرون : لها السكن ، لقوله تعالى : ( وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن ) فمفهومه أنهن إذا لم يكن حوامل لا ينفق عليهن . أقول : المفهوم لا عبرة له عندنا مع أنه مقيد بالغاية ، وهو قوله عز وجل : ( حتى يضعن حملهن ) وليس قيد المطلق الإنفاق ، ولذا قال صاحب المدارك : وفائدة اشتراط الحمل أن مدة الحمل ربما تطول ، فيظن ظان أن النفقة تسقط إذا مضى مقدار عدة السائل فنفى ذلك الوهم . قال النووي - رحمه الله - : وأجاب هؤلاء عن حديث فاطمة في سقوط السكنى بما قاله سعيد بن المسيب وغيره ، أنها كانت امرأة لسنة واستطالت على أحمائها ، فأمرها بالانتقال إلى بيت أم شريك .

( ثم قال : " تلك " : بكسر الكاف أي : هي ( امرأة يغشاها ) : أي : يدخل عليها ( أصحابي ) : أي : من أقاربها وأولادها فلا يصلح بيتها للمعتدة ، ( اعتدي عند ابن أم مكتوم ، فإنه رجل أعمى ، تضعين ثيابك ) : استئناف أو حال من فاعل " اعتدي " : المعنى لا تلبسي ثياب الزينة في حال العدة ، ويحتمل أن يكون كناية عن عدم جواز الخروج في أيام العدة ، أو يكون كناية عن كونها غير محتاجة إلى الحجاب ، قال النووي : فأمرها بالانتقال إلى بيت ابن أم مكتوم لأنه لا يبصرها ، ولا يتردد إلى بيته من يتردد إلى بيت أم شريك ، حتى إذا وضعت ثيابا للتبرز نظروا إليها ، وقد احتج بعض الناس بهذا على جواز نظر المرأة إلى الأجنبي بخلاف نظره إليها ، وهو ضعيف . والصحيح الذي عليه الجمهور أنه يحرم على المرأة النظر إلى الأجنبي كما يحرم عليه النظر إليها لقوله تعالى : ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ) الآية . ولحديث أم سلمة : " أفعمياوان أنتما " على ما سبق ، وأيضا ليس في هذا الحديث رخصة لها في النظر إليه ، بل فيه أنها آمنة عنده من نظر غيره ، وهي مأمورة بغض بصرها عنه ، اهـ . وعندنا إنما يحرم النظر إلى الوجه إذا كان على وجه الشهوة ( فإذا حللت ) : أي : خرجت من العدة ( فآذنيني ) : بالمد وكسر الذال أي : فأعلميني ( قلت : فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان ) : أي : ابن حرب الأموي ( وأبا جهم ) : بفتح فسكون . قال المصنف : هو عامر بن حذيفة العدوي القرشي ، وهو مشهور بكنيته ، وهو الذي طلب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنبجانيته في الصلاة . قال النووي : وهو غير أبي جهم المذكور في التيمم ، وفي المرور بين يدي المصلي ( خطباني ) : قال النووي - رحمه الله - : وفيه جواز التعريض بخطبة البائن . أقول : ليس في هذا الحديث دلالة على ذلك . بل الظاهر أن الخطبة وقعت صريحا بعد العدة ( فقال : " أما ) : بتشديد الميم للتفصيل ( أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ) : بكسر الفوقية أي : منكبه ، وهو كناية عن كثرة الأسفار أو عن كثرة الضرب ، وهو الأصح بدليل الرواية الأخرى أنه ضراب للنساء ، ذكره النووي - رحمه الله - ويمكن الجمع بينهما . قال : وفيه دليل على جواز ذكر الإنسان مما فيه عند المشاورة وطلب النصيحة ، ولا يكون هذا من الغيبة المحرمة . ( وأما معاوية فصعلوك ) : بالضم أو فقير ( لا مال له ) : صفة كاشفة ، وهذا يدل على أنه كان في غاية من الفقر والفاقة ، حتى قال في حقه : إنه صعلوك وفيه إيماء إلى قوله تعالى : ( وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله ) وهذا إشارة إلى أن المستشار مؤتمن على ما ورد في الحديث ، وفيه تصريح منه - عليه الصلاة والسلام - على جواز ذكر عيب في الزوج لتحترز الزوجة منه ، لئلا تقع الزوجة في المشقة ، [ ص: 2177 ] وكذلك إذا كان في المرأة عيب جاز ذكره لئلا يقع الزوج في مشقة ، قيل : فقره ذلك الوقت ، لأن أباه كان كافرا ولم يسلم بعد ولم يعط ابنه شيئا بعد ما أسلم ، وهذا مردود إذ صرح في المواهب أن معاوية وأباه من مسلمة الفتح ، فالأظهر أنه لشح والده كما سيجيء أنه كان شحيحا على امرأته وولده في الإسلام ، فكيف حال الكفر ؟ ( انكحي ) : بهمزة وصل وكسر الكاف أي : تزوجي ( أسامة بن زيد : فكرهته ) : أي : ابتداء لكونه مولى أسود جدا ، وإنما أشار - صلى الله عليه وسلم - بنكاح أسامة لما علمه من دينه وفضله وحسن طرائقه وكرم شمائله ، فنصحها بذلك .

( ثم قال : وفي رواية فقال : " انكحي أسامة " فنكحته ) : وإنما كرر عليها الحث على زواجه لما علم من مصلحتها في ذلك ، وكان كذلك ، ولذا قالت : ( فجعل الله فيه ) : أي : فقدر في أسامة وصحبته ( خيرا ) : أي : كثيرا ( واغتبطت ) : أي : به كما في رواية ، وهو بفتح التاء والباء أي : صرت ذات غبطة بحيث اغتبطتني النساء لحظ كان لي منه . قال النووي في شرح مسلم ، وفي بعض النسخ : اغتبطت به ، يقال : غبطته بما نال أغبطه بكسر الباء فاغتبط هو يمنعه فامتنع وحبسه فاحتبس ، وفي القاموس : الغبطة بالكسر حسن الحال والمسرة ، وقد اغتبط ، والحسد كالغبطة وقد غبطه كضربه وسمعه تمنى نعمة على أن لا تتحول عن صاحبها ، والاغتباط التبجح بالحال الحسن ، وفي شرح السنة : فيه دليل على أن المال معتبر في الكفاءة ، وعلى أن الرجل إذا لم يجد نفقة أهله وطلبت المرأة فراقه فرق بينهما . قلت : ليس في الحديث دليل على ذلك . قال : وعلى جواز الخطبة على خطبة الغير إذا لم يأذن ولم تركن إليه . قلت : هذا يحتاج إلى العلم بخطبة الغير . قال : وعلى جواز تزويج المرأة من غير كفؤ برضاها ، فإن فاطمة هذه كانت قرشية ، وأسامة من الموالي ، وفيه أنه لم يعرف عدم رضا الأولياء ، بل الظاهر أنهم رضوا بذلك لأجل أمره - صلى الله عليه وسلم - وهو نظير ما نزل في حق زيد بن حارثة لنكاح زينب بنت جحش من قوله تعالى : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) .

( وفي رواية عنها ) : أي : عن فاطمة المذكورة ( فأما أبو جهم فرجل ضراب ) : أي : كثير الضرب ( للنساء ) : تعني ولا كل أحد من النساء تصبر عليه ( رواه مسلم . وفي رواية ) : أي : لمسلم ( أن زوجها طلقها ثلاثا ) : وهو يحتمل أنه طلقها ثلاثا ابتداء ، أو أنه جعل طلاقها ثلاثا بطلقة ثالثة ، والأول هو الأظهر ، والله تعالى أعلم . ( فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " لا نفقة لك ) : أي : زيادة على أيام العدة ( إلا أن تكوني حاملا ) : أي : فإن النفقة حينئذ جارية إلى وضع الحمل .




الخدمات العلمية