الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
3846 - وعن معاذ رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الغزو غزوان ، فأما من ابتغى وجه الله ، وأطاع الإمام ، وأنفق الكريمة ، وياسر الشريك ، واجتنب الفساد ; فإن نومه ونبهه أجر كله . وأما من غزا فخرا ، ورياء ، وسمعة ، وعصى الإمام ، وأفسد في الأرض ، فإنه لم يرجع بالكفاف " . رواه مالك ، وأبو داود ، والنسائي .

التالي السابق


3846 - ( وعن معاذ رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الغزو : أي : جنسه لا الغزو المعهود ( غزوان ) : أي : نوعان ، أو قسمان . قال القاضي : أي : غزو على ما ينبغي وغزو لا على ما ينبغي ، فاقتصر الكلام واستغنى بذكر الغزاة ، وعد أصنافها وشرح حالهم ، وبيان أحكامهم عن ذكر القسمين ، وشرح كل واحد منهما مفصلا حيث قال : ( فأما من ابتغى وجه الله ) : أي : طلب رضا مولاه . وفي رواية : فأما من غزا ابتغاء وجه الله تعالى ( وأطاع الإمام ) : أي : في غزوة فأتى به على نحو ما أمره ( وأنفق الكريمة ) : أي : المختارة من ماله وقتل نفسه ، والتاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية ( وياسر الشريك ) : من المياسرة بمعنى المساهلة ; أي : ساهل الرفيق على وجه المبالغة ، واستعمل اليسر معه نفعا بالمعونة وكفاية بالمؤنة ( واجتنب الفساد ) : أي : التجاوز عن المشروع قتلا وضربا وتخريبا ونهبا على قصد الفساد لقوله تعالى : ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) ; أي : لا تفسدوا فيها حال كونكم قاصدين الفساد ، بل مريدين صلاح البلاد والعباد ( فإن نومه ) : أي : حينئذ ( ونبهه ) : بفتح الموحدة وفي نسخة صحيحة بسكونها ; أي : يقظته ، وفي معناها غفلته ، وذكره وأكله وشربه وحركته وسكونه ( أجر ) : أي : ذو أجر وثواب ( كله ) : بالرفع على أنه مبتدأ خبره مقدم عليه ، والجملة خبر إن ; أي : كل ما ذكر أجر مبالغة ، كرجل عدل ، أو مقتض للأجر جالب للثواب ، وفي نسخة بالنصب على أنه تأكيد لاسم إن أتي به بعد الخبر ، وفي جوازه محل نظر . قال الطيبي : لا يصح أن يكون كله تأكيدا للأجر على ما لا يخفى ; أي : لمضي الخبر الذي هو محط الحكم ، فإن فائدة التأكيد إنما تظهر قبل إيقاع الخبر عليه ، فالوجه أن يقال التقدير أعني كله فيكون جملة مؤكدة قال : والمعنى كل من ذلك أجر ، وهذا التركيب مشعر باهتمام حمل الأجر على النوم والنبه مبالغة في بيان كونهما شيئين مستقلين غاية الاستقلال ( وأما من غزا فخرا ) : أي : مفاخرة ، أو للفخر ، ففي النهاية الفخر ادعاء العظمة والكبرياء والشرف ، ومنه : " أنا سيد ولد آدم ولا فخر " ; أي : لا أقول تبجحا ، ولكن شكرا لله وتحدثا بنعمته ( ورياء وسمعة ) : أي : ليراه الناس ويسمعوا صيته في جلادته وشجاعته ( وعصى الإمام ) : أي : في أمره ونهيه ( وأفسد في الأرض ) : أي : قصد الفساد فيها بإهلاك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد . ( فإنه لم يرجع بالكفاف ) : بفتح الكاف ، وفي نسخة بكسرها ففي القاموس : كفاف الشيء كسحاب مثلثة ، ومن الرزق ما كف عن الناس ، وكفاف الشيء بالكسر خياره . وفي النهاية : الكفاف الذي لا يفضل عن الشيء ويكون بقدر الحاجة إليه . قال القاضي : أي : لم يرجع بالثواب مأخوذ من كفاف الشيء وهو خياره ، أو من الرزق ; أي لم يرجع بخير ، أو بثواب يغنيه يوم القيامة فقوله : الأول يشير إلى أن الكفاف بالكسر ، والثاني إلى أنه بالفتح وقال المظهر : أي : لم يعد من الغزو رأسا برأس بحيث لا يكون له أجر ولا عليه وزر ، بل وزره أكثر ; لأنه لم يغز لله وأفسد في الأرض ، يقال : دعني كفافا ; أي : تكف عني وأكف عنك اه .

ويدل على أنه اقتصر على كسر الكاف ، وأراد به المصدر من باب المفاعلة . قال الطيبي : الوجه ما قاله القاضي ; لأن الكفاف على هذا المعنى يقتضي أن يكون له ثواب أيضا وإثم ، ويزيد إثمه على ثوابه ، كما قال عمر رضي الله عنه : وددت أني سلمت من الخلافة كفافا لا علي ولا لي ، والمرائي المفسد ليس له ثواب البتة . قال الشيخ أبو حامد في المرائي الذي لا يبتغي وجه الله ، بل يعمل فخرا ورياء وسمعة : تبطل عبادته ; لأن الأعمال بالنيات وهذا ليس يقصد العبادة ، ثم لا يقتصر على إحباط عبادته حتى يقال : صار كما كان قبل العبادة ، بل يعصي بذلك ويأثم اه .

[ ص: 2489 ] ولا يخفى أن كلام الإمام قيد المرائي بالذي لا يبتغي وجه الله ، وليس في الحديث دلالة على ذلك ، فيمكن أن يكون ممن جمع في العبادة بين النيتين ، وقد صرح الإمام في منهاج العابدين أن الرياء ضربان : رياء محض ورياء تخليط ، فالمحض أن يريد به نفع الدنيا لا غير ، والتخليط أن يريدهما جميعا ، فهذا أحدهما ، وأما تأثيرهما فإن إخلاص العمل أن يجعل الفعل قربة ، وإخلاص طلب الأجر أن يجعله مقبولا وافر الأجر إلى أن قال : والمختار أن من تأثير الرياء رفع القبول والنقصان في الثواب والله أعلم بالصواب وقال في عين العلم : إلا فحش في الرياء أن لا يريد الثواب أصلا ، وهو في غاية المقت ، ثم ما فيه إرادتان ، والرياء غالب فهو بقربه ، ثم ما استويا فيه ، فالمرجو أن لا يكون له ولا عليه ، ثم ما ترجح فيه قصد الثواب ، فالمظنون أن الراجح فيه النقصان لا البطلان ، أو الثواب والعقاب بحسب القصدين ، والأصل أن القرب منه تعالى بالميل إليه والبعد عنه الذهول ، وما ورد أنا أغنى الأغنياء عن الشرك ونحوه محمول على الأول ، وهو أن لا يريد الثواب أصلا ، وفي الإحياء أنه محمول على ما إذا تساويا ، أو ترجح الرياء . قال الأشرف : ولا بد في قوله : فأما من ابتغى وجه الله ، وفي قوله : وأما من غزا من إضمار مضاف تقديره : فأما غزو من ابتغى ، وأما غزو من غزا فإنهما قسمان لمورد القسمة . قال الطيبي : ولا يستتب على هذا التقدير إجراء الخبر على المبتدأ ، فينبغي أن يقدر الغزو غزوان : غزو من ابتغى وجه الله ، وغزو من لم يبتغ ، وأما من ابتغى وجه الله ، فحكمه كذا ، وأما من غزا فخرا فحكمه كذا ، فيكون من باب الجمع مع التفريق والتقسيم كقوله تعالى : ( يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد فأما الذين شقوا ) الآيتين فحذف التفريق لدلالة التقسيم عليه ، وهذا معنى قول القاضي ، فاقتصر الكلام واستغنى بذكر الغزاة عن ذكر القسمين . ( رواه مالك ، وأبو داود ، والنسائي ) : وكذا أحمد والحاكم والبيهقي .




الخدمات العلمية