الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
3986 - وعن أبي قتادة رضي الله عنه ، قال : خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عام حنين ، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة ، فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين ، فضربته من ورائه على حبل عاتقه بالسيف ، فقطعت الدرع ، وأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ، ثم أدركه الموت فأرسلني ، فلحقت عمر بن الخطاب ، فقلت : ما بال الناس ؟ قال : أمر الله ، ثم رجعوا وجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه " فقلت : من يشهد لي ؟ ، ثم جلست ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله فقلت : من يشهد لي ؟ ، ثم جلست ، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله ، فقمت ، فقال : " ما لك يا أبا قتادة ؟ " فأخبرته ، فقال رجل : صدق ، وسلبه عندي فأرضه مني . فقال أبو بكر : لاها الله ، إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " صدق فأعطه " فأعطانيه ، فابتعت به مخرفا في بني سلمة ; فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام . متفق عليه .

التالي السابق


3986 - ( عن أبي قتادة قال : خرجنا مع النبي ) : وفي نسخة : مع رسول الله ( - صلى الله عليه وسلم - عام حنين ) : في القاموس : هو كزبير موضع بين الطائف ومكة ( فلما التقينا ) : أي نحن والمشركون ( كانت ) : أي : صارت ( للمسلمين جولة ) : بفتح الجيم وسكون الواو من الجولان ; أي : هزيمة قليلة كأنها جولان واحد ، يقال : جال في الحرب جولة ; أي دار ، وقد فسرت في الحديث بالهزيمة ، وعبر عنها بالجولة لاشتراكهما في الاضطراب وعدم الاستقرار ، ففي النهاية : جال واجتال إذا ذهب وجاء ، ومنه الجولان في الحرب ، والجائل الزائل عن مكانه . قال التوربشتي : أرى الصحابي كره لهم لفظ الهزيمة فكنى عنها بالجولة ولما كانت الجولة مما لا استقرار عليه استعملها في الهزيمة تنبيها على أنهم لم يكونوا استقروا عليها ، قال النووي : وإنما كانت الهزيمة من بعض الجيش . وأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطائفة معه فلم يزالوا . والأحاديث الصحيحة في ذلك مشهورة ، ولم ير واحد قط أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انهزم في موطن من المواطن ، بل يثبت فيها بإقدامه وثباته في جميع المواطن . ( فرأيت رجلا من المشركين قد علا ) : أي : غلب ( رجلا من المسلمين ، فضربته ) : أي : المشرك ( من ورائه على حبل عاتقه ) : بكسر الفوقية وهو ما بين العنق والكتف ( بالسيف ، فقطعت الدرع ) : أي : درعه وأوصلت الجراحة إلى بدنه ( وأقبل علي فضمني ) : أي : ضغطني وعصرني ( ضمة وجدت منها ريح الموت ) : استعارة عن أثره ; أي : وجدت منه شدة كشدة الموت ، والمعنى قد قاربت الموت ( ثم أدركه الموت فأرسلني ) : أي : فخلى سبيلي فخليته ( فلحقت عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قلت : ما بال الناس ) : أي : منهزمين ( قال : أمر الله ) : أي : كان ذلك من قضائه وقدره ، أو ما حال المسلمين بعد الانهزام ؟ فقال : أمر الله غالب والنصرة للمؤمنين ( ثم رجعوا ) : أي : المسلمون ( وجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " من قتل قتيلا " ) : أوقع القتل على المقتول باعتبار مآله كقوله تعالى : أعصر خمرا ( له ) : أي : للقاتل ( عليه ) : أي : على قتله للمقتول ( بينة ) : أي : شاهد ولو واحدا ( فله سلبه ) : بفتحتين فعل بمعنى المفعول ; أي ما على القتيل ومعه من ثياب وسلاح ومركب وجنيب يقاد بين يديه .

[ ص: 2567 ] قال النووي : فيه دليل للشافعي والليث : أن السلب لا يعطى إلا لمن له بينة بأنه قتل ولا يقبل قوله ، وقال مالك : يقبل ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - أعطاه بقول واحد ولم يحلفه ، والجواب أنه - صلى الله عليه وسلم - علم أنه القاتل بطريق من الطرق ، وقد صرح - صلى الله عليه وسلم - بالبينة ، فلا يكفي الواحد ، واحتج بعضهم بأنه استحق بإقرار من هو في يده وهو ضعيف ; لأن الإقرار إنما ينفع إذا كان المال منسوبا إلى من هو في يده فيؤخذ بإقراره ، وهنا منسوب إلى جميع الجيش . قال ابن الملك : استدل الشافعي بالحديث على أن السلب للقاتل ، وقال أبو حنيفة : السلب لا يكون للقاتل إذا لم ينفل الإمام به ، والحديث محمول على التنفيل جمعا بينه وبين حديث آخر ليس لك من سلب قتيلك إلا ما طابت به نفس إمامك . وقال النووي : اختلفوا فيه ، فقال مالك والأوزاعي والثوري وأحمد وغيرهم : يستحق القاتل السلب ، سواء قال أمير الجيش قبل ذلك هذا القول أم لا . قالوا : وهذا فتوى من النبي - صلى الله عليه وسلم - وإخبار عن حكم الشرع ، وقال أبو حنيفة والشافعي ومن تابعهما : لا يستحق بمجرد القتل إلا أن يقول الإمام قبل القتال : من قتل قتيلا فله سلبه وجعلوا هذا إطلاقا من النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس بفتوى منه ولا إخبار عام . وهذا الذي قالوه ضعيف ; لأنه صريح في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله بعد الفراغ . قال الطيبي : ويؤيده حديث عوف بن مالك في الفصل الثاني ; لأنه مطلق ، والأصل عدم التقييد ، قلت : لا شك أنه - صلى الله عليه وسلم - قاله في هذا الحديث بعد الفراغ ، لكنه يحتمل أن يكون إعادة لما قاله قبله ، وأما حديث عوف : قضى في السلب للقاتل فقبل التقييد ، وأما حديث أنس في الفصل الثاني قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ يعني يوم حنين : " من قتل كافرا فله سلبه " فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا وأخذ أسلابهم فصريح في أن القتل وقع بعد القول فيقيد المطلق به ، وفي التكرار الآتي دليل ; أيضا على أنه ليس بإفتاء وإخبار ، بل لإجراء الحكم المقرر من قبل .

قال ابن الهمام : وإذا لم يجعل السلب للقاتل ، فهو من جملة الغنيمة والقاتل وغيره سواء وهو قول مالك . وقال الشافعي : السلب للقاتل إذا كان من أهل أن يسهم له ، وبه قال أحمد . ( فقلت ) : أي : في نفسي ، أو جهارا وفي رواية : فقمت فقلت ( من يشهد لي ؟ ) : أي : بأني قتلت رجلا من المشركين فيكون سلبه لي ( ثم جلست فقال - صلى الله عليه وسلم - مثله ) : أي : مثل قوله الأول ( فقلت ) : أي : فقمت فقلت ( من يشهد لي ، ثم جلست قال - صلى الله عليه وسلم - مثله ، ثم قمت فقال : " ما لك يا أبا قتادة ؟ ) ; أي تقوم وتجلس على هيئة طالب لغرض ، أو صاحب غرض ( فأخبرته فقال رجل صدق ) ; أي : أبو قتادة ( وسلبه عندي فأرضه مني ) : من باب الأفعال ، والخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; أي : فأعطه عوضا عن ذلك السلب ليكون لي ، أو أرضه بالمصالحة بيني وبينه . قال الطيبي : " من " فيه ابتدائية ; أي : أرض أبا قتادة لأجلي ومن جهتي ، وذلك إما بالهبة ، أو بأخذه شيئا يسيرا من بدله . ( قال أبو بكر : لاها الله ) : بالجر ; أي : لا والله ( إذا ) : بالتنوين ; أي : إذا صدق أبو قتادة ( لا يعمد ) : بكسر الميم ورفع الدال ( إلى أسد من أسد الله ) : بضم الهمزة وسكون السين ، وقيل بضمهما جمع أسد ، والجملة تفسير للمقسم عليه ، والمعنى لا يقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى إبطال حقه وإعطاء سلبه إياك . قال النووي : في جميع روايات المحدثين في الصحيحين وغيرهما إذا بالألف قبل الذال ، وأنكره الخطابي وأهل العربية اهـ كلامه .

ولقد أطال الطيبي من مقال النحويين والمعربين في هذا المحل مع تعارض تقديراتهم وتناقض تقديراتهم . قال النووي : فيه دليل على أن هذه اللفظة تكون يمينا . قال أصحابنا : إن نوى اليمين كانت يمينا وإلا فلا ; لأنها ليس متعارفة في الأيمان ( يقاتل عن الله ورسوله ) : أي : لرضاهما ونصرة دينهما ( فيعطيك ) : أي : هو ، أو النبي - صلى الله عليه وسلم - ( سلبه ) : أي جميعه ، أو بعضه من غير سببه . قال الطيبي : ، قوله : عن الله فيه وجهان . أحدهما : أن [ ص: 2568 ] يكون عين صلة فيكون المعنى يصدر قتاله عن رضا الله ورسوله ; أي : بسببهما ، كقوله تعالى وما فعلته عن أمري وثانيهما أن يكون حالا ; أي : يقاتل ذابا عن دين الله أعداء الله ناصرا لأوليائه . ( فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " صدق " : أي : الصديق ( فأعطه ) : أي : أبا قتادة سلبه قال النووي : المعنى يقاتل لنصرة دين الله وشريعة رسوله ، لتكون كلمته هي العليا ، وفيه دلالة ظاهرة على فضل الصديق رضي الله عنه ومكانته عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإفتائه بحضرته وتصديقه له ، وعلى منقبة أبي قتادة ، فإنه سماه أسدا من أسد الله ( فأعطانيه ، فابتعت ) : أي : اشتريت ( به ) : أي : بذلك السلب ( مخرفا ) : بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الراء ويجوز كسرها نقله ميرك عن الشيخ ، وقال السيوطي : الأول هو المشهور ، وروي بالكسر ; أي : بستانا ( في بني سلمة ) : بكسر اللام ( فإنه ) : وفي نسخة وإنه ( لأول مال تأثلته ) : أي : اقتنيته وتأصلته يعني جمعته وجعلته أصل مالي ( في الإسلام . متفق عليه ) .

قال ابن الهمام : لا خلاف في أنه عليه السلام قال ذلك ، وإنما الكلام أن هذا منه نصب الشرع على العموم في الأوقات والأحوال ، أو كان تحريضا بالتنفيل قاله في تلك الوقعة وغيرها يخصها ، فعند الشافعي نصب الشرع ; لأنه هو الأصل في قوله ; لأنه إنما بعث لذلك ، وقلنا : كونه تنفيلا هو أيضا من نصب الشرع ، والدلالة على أنه على الخصوص ، واستدل صاحب الهداية بأنه قال - صلى الله عليه وسلم - لحبيب بن سلمة : " ليس لك ملك من سلب قتيلك إلا ما طابت به نفس إمامك " فكان دليلا على أحد محتملي قوله : " من قتل قتيلا فله سلبه " وهو أنه تنفيل في تلك الغزوة لا نصب عام للشرع ، وهو حسن لو صح الحديث ، أو حسن لكنه إنما رواه الطبراني في معجمه الكبير والوسط ، بلغ حبيب بن سلمة أن صاحب قبرص خرج يريد طريق أذربيجان ومعه زمرد وياقوت ولؤلؤ وغيرها فخرج إليه فقتله فجاء بما معه ، وأراد أبو عبيدة أن يخمس فقال له حبيب بن سلمة : لا تحرمني رزقا رزقنيه الله ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل السلب للقاتل ، فقال : معاذ الله يا حبيب ، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إنما للمرء ما طابت نفس إمامه ، وهنا معلول بعمرو بن واقد وقد رواه إسحاق بن راهويه ، ثنا بقية بن الوليد ، حدثني رجل ، عن مكحول ، عن جنادة بن أمية قال : كنا معسكرين بدانفاء ، وذكر لحبيب بن سلمة الفهري إلى أن قال : فجاء بسلبه على خمسة أبغال من الديباج والياقوت والزبرجد ، فأراد حبيب أن يأخذه كله وأبو عبيدة يقول بعضه ، فقال حبيب لأبي عبيدة : قد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من قتل قتيلا فله سلبه " قال أبو عبيدة : إنه لم يقل ذلك للأبد ، فسمع معاذ ذلك ، فأتى أبا عبيدة وحبيب يخاصمه فقال معاذ : ألا تتقي وتأخذ ما طابت به نفس إمامك ، فإن ما لك ما طابت به نفس إمامك ، فحدثهم بذلك معاذ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فاجتمع رأيهم على ذلك فأعطوه من الخمس ، فباعه حبيب بألف دينار ، وفيه كما ترى مجهول ولكن قد لا يضر ضعفه فإنا إنما نستأنس لأحد محتملي لفظ روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد يتأيد بما في البخاري ومسلم من حديث عبد الرحمن بن عوف في مقتل أبي جهل يوم بدر ، فإن فيه أنه عليه الصلاة والسلام قال لمعاذ بن عمرو بن الجموح ، ومعاذ بن عفراء بعدما رأى سيفهما : " كلاكما قتله " ، ثم قضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح وحده ، ولو كان مستحقا للقاتل لقضى به لهما إلا أن البيهقي رفعه : بأن غنيمة بدر كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - بنص الكتاب من يشاء ، وقد قسم لجماعة لم يحضروا ، ثم نزلت آية الغنيمة بعد بدر ، فقضى عليه الصلاة والسلام السلب للقاتل واستقر الأمر على ذلك اهـ .

[ ص: 2569 ] يعني ما كان إذ ذاك قال : السلب للقاتل حتى يصح الاستدلال ، وقد يدعي أنه قال في بدر ; أيضا على ما أخرجهابن مردويه من طريق فيه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وعن عطاء بن عجلان عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين قال : قال عليه الصلاة والسلام يوم بدر : " من قتل قتيلا فله سلبه " فجاء أبو اليسر بأسيرين فقال سعد بن عبادة : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان يظن بنا جبنا عن العدو ، ولا ضنا بالحياة أن نصنع ما صنع إخواننا ، ولكن رأيناك قد أفردت فكرهنا ندعوك بضيعة . قال : فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يوزعوا تلك الغنائم بينهم ، فظهر أنه حيث قاله ليس نصب الشرع للأبد ، وهو - وإن ضعف سنده - فقد ثبت أنه قال يوم بدر : " من قتل قتيلا فله كذا وكذا " في أبي داود ، ولا شك أنه لم يقل كذا كذا ، فإنما كنى به الراوي عن خصوص ما قاله ، وقد علمنا أنه لم يكن هنا دراهم ودنانير . فإن الحال بذلك غير معتاد ، ولا الحال تقتضي ذلك لقلتها ، أو عدمها ، فيغلب على الظن أن ذلك المكنى عنه للراوي هو السلب وما أخذ ; لأنه المعتاد أن يجعل في الحرب للقاتل ، وليس كل ما روي بطريق ضعيفة باطلا ، فيقع الظن بصحة جعله في بدر السلب للقاتل والمأخوذ للآخذ ، فيجب قبوله ، غاية الأمر أنه تظافرت به أحاديث ضعيفة على ما يفيد أن المذكور من قوله : " من قتل قتيلا فله سلبه " ليس نصبا عاما مستمرا والضعيف إذا تعددت طرقه ارتقى إلى الحسن ، فيغلب الظن أنه تنفيل في تلك الوقائع .

ومما يبين ذلك بقية حديث أبي داود فإنه قال بعد قوله : كذا وكذا فتقدم الفتيان ولزم المشيخة الرايات ، فلما فتح الله عليهم قال المشيخة : كنا ردا لكم لو انهزمتم فئتم إلينا فلا تذهبوا بالمغنم ونبقى ، فأبى الفتيان ذلك وقالوا : جعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنا ، الحديث فقوله جعله يبين أن كذا وكذا هو جعله السلب للقاتلين والمأخوذ للآخذين وحديث مسلم وأبي داود ، عن عوف بن مالك الأشجعي دليل ظاهر أنه كما قلنا .

قال : خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ورافقني مددي من أهل اليمن ، فلقينا جموع الروم وفيهم رجل على فرس أشقر عليه سرج مذهب وسلاح مذهب ، فجعل يغري بالمسلمين ، وقعد له المددي خلف شجرة فمر به الرومي ، فعرقب فرسه فخر فعلاه فقتله ، فحاز فرسه وسلاحه ، فلما فتح الله على المسلمين بعث عليه خالد بن الوليد فأخذ منه سلب الرومي . قال عوف : فأتيت خالدا فقلت له : يا خالد ! أما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالسلب للقاتل ؟ قال : بلى ، ولكني استكثرته . قلت : أتردنه ، أو لأعرفنكما عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فأبى أن يعطيه . قال عوف : فاجتمعنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقصصت عليه قصة المددي ، وما فعل خالد ، فقال عليه الصلاة والسلام لخالد : " رد عليه ما أخذت منه " . قال عوف : دونك يا خالد لم أوف لك فقال - صلى الله عليه وسلم - : " وما ذاك ؟ " فأخبرته ، قال : فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : " يا خالد لا ترد عليه هل أنتم تاركو لي أمرائي ، لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره " ففيه أمران . الأول : رد قول من قال إنه عليه الصلاة والسلام لم يقل : " من قتل قتيلا فله سلبه " إلا في حنين ، فإن موته كانت قبل حنين ، وقد اتفق عوف وخالد أنه عليه الصلاة والسلام قضى بالسلب للقاتل قبل ذلك ، والآخر : أنه منع خالدا من رده بعد ما أمر به ، فدل أن ذلك حيث قال عليه الصلاة والسلام كان تنفيلا ، وأن أمره ; إياه بذلك كان تنفيلا طابت نفس الإمام له ولو كان شرعا لازما لم يمنعه من مستحقه ، وقول الخطابي : إنما منعه أن يرد على عوف سلبه زجرا لعوف لئلا يتجرأ الناس على الأئمة ، وخالد كان مجتهدا فأمضاه عليه الصلاة والسلام ، واليسير من الضرر يتحمل للكثير من النفع غلط ، وذلك ; لأن السلب لم يكن للذي تجرأ ، وهو عوف ، وإنما كان للمددي فلا تزر وازرة وزر أخرى ، وغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك كان أشد على عوف من منع السلب وأزجر له منه ، فالوجه أنه عليه السلام أحب أولا أن يمضي شفاعته للمددي في التنفيل ، فلما غضب منه رد شفاعته ، وذلك بمنع السلب ، لا أنه لغضبه وسياسته يزجر بمنع حق آخر لم يقع له جناية ، وهذا أيضا يدل على أنه ليس شرعا عاما لازما .

[ ص: 2570 ]



الخدمات العلمية