الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثالث

4028 - عن عبد الرحمن بن عوف ، قال : إني واقف في الصف يوم بدر فنظرت عن يميني وعن شمالي ، فإذا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما ، تمنيت أن أكون بين أضلع منهما ، فغمزني أحدهما ، فقال أي عم ! هل تعرف أبا جهل ؟ قلت : نعم ، فما حاجتك إليه يا ابن أخي ؟ قال : أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا ، فتعجبت لذلك ، قال : وغمزني الآخر فقال لي مثلها ، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس ، فقلت ألا تريان ؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه . قال : فابتدراه بسيفيهما ، فضرباه حتى قتلاه ، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبراه ، قال : " أيكما قتله ؟ " فقال كل واحد منهما : أنا قتلته ، فقال : " هل مسحتما سيفكما ؟ " فقالا : لا فنظر رسول الله إلى السيفين ، فقال : " كلاكما قتله " . وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو الجموح والرجلان : معاذ بن عمرو بن الجموح ، ومعاذ بن عفراء . متفق عليه .

التالي السابق


الفصل الثالث

4028 - ( عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ) : هو أحد العشرة المبشرة ( قال : إني لواقف في الصف يوم بدر ) : روي أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر نفرا ، وما كان معه إلا فرس واحد وقيل فرسان وكان الكفار قريب ألف مقاتل ومعهم مائة فرس ( فنظرت عن يميني ) أي : مرة ( وعن شمالي ) أي : أخرى ، وهذه نكتة إعادة الجار ( فإذا ) : للمفاجأة ( أنا ) أي : حاضر محفوف ( بغلامين ) أي : شابين ( من الأنصار حديثة ) : بالجر أي : جديدة ( أسنانهما ) أي : أعمارهما ( فتمنيت أن أكون ) أي : واقفا أي : واقعا ( بين أضلع منهما ) : في النهاية أي : بين رجلين أقوى من الرجلين اللذين كنت بينهما ، والمعنى أني حقرت أمرهما في الشجاعة ، لكونهما شابين ، وما من الأنصار والشيوخ ، لا سيما من المهاجرين أقوى في النجدة على ما هو المعروف عندهم ، ولذا قال أبو جهل : فلو غير أكار قتلني كما سيأتي ، وقد كانا شجاعين ، وبالمهمة قويين ( فغمزني أحدهما ) أي : أشار إلي بالعين ، أو بالمد وقال : الغمز العصر والكيس باليد ( فقال أي : عم ! ) أي : يا عمي ( هل تعرف أبا جهل ؟ قلت : نعم . فما حاجتك إليه يا ابن أخي ؟ قال : [ ص: 2598 ] أخبرت ) أي : أنبئت ( أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم ) أي : يشتمه ويذمه ( والذي نفسي بيده لئن رأيته ) أي : أبصرته وعرفته ( لا يفارق سوادي سواده ) أي : شخصي شخصه ، وفيه استهانة لنفسه ، وأنه يقربها لله ، وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ( حتى يموت الأعجل ) أي : الأقرب أجلا ( منا ) أي : مني ومنه ( قال ) أي : عبد الرحمن ( فعجبت لذلك ) : يعني لما كنت لم أظن به ذلك ( قال ) أي : عبد الرحمن ( وغمزني الآخر ) : عطف على فغمزني أحدهما ( فقال لي مثلها ) أي : مثل تلك المقالة ( فلم أنشب ) : بفتح المعجمة أي : لم ألبث ولم أمكث ( أن نظرت إلى أبي جهل يجول ) : بالجيم أي : يدور ( في الناس ) أي : فيما بين قومه من الكفار ( قلت ) أي : لهما ( ألا تريان ؟ ) أي : ألا تبصران والهمزة للتقرير ( هذا صاحبكما ) : بالرفع أي : مطلوبكما ( الذي تسألاني ) : بتشديد النون ويخفف أي : يسألني كل واحد منكما ( عنه ) : في نسخة بنصب صاحبكما . قال الطيبي : يجوز أن يكون منصوبا بدلا من هذا ، ومرفوعا على أن هذا مبتدأ وهو خبر وتريان مفعوله لا يقدر ، إذا المراد إيجاد الرؤية ، كقوله تعالى : ( قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء ) الكشاف : ترك المفعول ; لأن الغرض هو الفعل لا المفعول ( قال : فابتدراه بسيفيهما ، فضرباه حتى قتلاه ) أي : قاربا قتله ( ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبراه ) أي : بما جرى لهما ( قال : " أيكما قتله ؟ فقال كل واحد منهما : أنا قتلته ، قال : " هل مسحتما سيفكما ؟ " ) : بالتثنية ( قالا : لا . فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السيفين ) أي : إلى محل الدمين منهما ( فقال : " كلاكما قتله " ) : بإفراد الضمير في قتله نظرا إلى لفظ كلا وهو أفصح من التثنية نظرا إلى معناه . قال تعالى : ( كلتا الجنتين آتت أكلها ) وإنما قال ذلك تطييبا لقلوبهما من حيث المشاركة في قتله ، وما يترتب عليه من الثواب والأجر الكثير ، وإن كان بينهما تفاوت في السبق والتأثير . ( وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلبه ) أي : بمسلوب أبي جهل ( لمعاذ بن عمرو بن الجموح ) : بفتح الجيم ; لأنه أثخنه بالجراحة أولا ، فاستحق السلب ، ثم شاركه الثاني ، ثم ابن مسعود وجده وبه رمق ، فحز رأسه كما سيأتي في الحديث الذي يليه . ( والرجلان ) أي : الغلامان ( معاذ بن عمرو بن الجموح ، ومعاذ ابن عفراء ) : هي أمه وهما أخوان أمهما واحد وأبوهما مختلف .

قال النووي : واختلفوا في معناه فقال أصحابنا : اشترك هذان الرجلان في جراحته لكن معاذ بن عمرو أثخنه أولا ، فاستحق السلب ، وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلاكما قتله " تطييبا لقلب الآخر من حيث إن له مشاركة في قتله ، وإلا فالقتل الشرعي يتعلق به استحقاق السلب وهو الإثخان وإخراجه عن كونه ممتنعا ، وإنما وجد من معاذ بن عمرو ، فلهذا قضى له بالسلب ، وإنما أخذ السيفين ليستدل بهما على حقيقة كيفية قتلهما ، فعلم أن ابن الجموح أثخنه ، ثم شاركه الثاني بعد ذلك ، وبعد استحقاقه السلب . وقال أصحاب مالك إنما أعطاه لأحدهما ; لأن الإمام مخير في السلب ينفل فيه ما شاء ، وذكر في صحيح البخاري في حديث إبراهيم بن سعد : أن الذي ضربه ابن عفراء ، وفي رواية أن ابني عفراء ضرباه حتى برد ، وذكر غيره أن ابن مسعود هو الذي أجهز وأخذ رأسه . قال الشيخ : يحمل هذا على أن الثلاثة اشتركوا في قتله ، فكان إثخانه من معاذ بن عمرو بن الجموح ، وجاء ابن مسعود بعد ذلك وفيه رمق فحز رأسه ، وفيه من الفوائد المبادرة إلى الحرب والغضب لله ولرسوله ، وفيه أنه لا ينبغي لأحد أن يحتقر أحدا لصغره ونحافة جسمه أن يصدر عنه أمر خطير ، واحتج به المالكية على استحقاق القاتل السلب بقوله : بلا بينة . والجواب أنه صلى الله عليه وسلم لعله عرف ذلك ببينة ، أو غيرها اهـ . والظاهر أن هذا تنفيل منه صلى الله عليه وسلم ولذا أعطى سيف أبي جهل لابن مسعود ، ولم يعط لابن عفراء شيئا . ( متفق عليه ) .

[ ص: 2599 ]



الخدمات العلمية