الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
4044 - وعن أنس رضي الله عنه : أن قريشا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم فاشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن من جاءنا منكم لم نرده عليكم ، ومن جاءكم منا رددتموه علينا فقالوا : يا رسول الله أنكتب هذا ؟ قال : ( نعم إنه من ذهب منا فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا ) . رواه مسلم .

التالي السابق


4044 - ( وعن أنس رضي الله عنه ، أن قريشا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فاشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن من جاءنا منكم لم نرده ) : بضم الدال وبفتح ( عليكم ، ومن جاءكم منا رددتموه علينا ) : قال الطيبي : حكاية ما تلفظوا به واشترطوا عليه ( فقالوا ) أي : الصحابة استبعادا لهذا الشرط كما سبق . وسيأتي تفصيله . ( يا رسول الله أنكتب ) أي : نحن ( هذا ) ؟ أي : الشرط المذكور ( قال : نعم إنه ) أي : الشأن ( من ذهب منا إليهم فأبعده الله ) أي : من رحمته بأنه مرتد ( ومن جاءنا منهم ) أي : ورددناه إليهم ( سيجعل الله له فرجا ) أي : خلاصا ( ومخرجا ) : خروجا ، والمعنى سوف يخرجه من أيديهم . قال الطيبي قوله : إنه من ذهب إلخ . بيان لنعم على الاستئناف وهو جواب لإنكارهم في قولهم : أنكتب ؟ كأنهم استبعدوا هذا الشرط فرفع صلى الله عليه وسلم : شبهتهم . بما ذكر . ( رواه مسلم ) .

وفي رواية البخاري . فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : ألست نبي الله حقا ؟ قال : ( بلى ) . قال : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : ( بلى ) . قلت فلم نعطي الدنية في ديننا إذا ؟ قال : ( إني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولست أعصيه وهو ناصري ) قلت : أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال : ( بلى فأخبرتك أنا نأتيه العام ؟ ) قلت : لا . قال : ( فإنك آتيه وتطوف به ) . قال : فأتى أبا بكر رضي الله عنه فقلت : يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا ؟ قال : بلى ، قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى ، قلت : فلم نعطي الدنية في ديننا إذا ؟ قال : أيها الرجل إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس يعصي ربه ، وهو ناصره ، فاستمسك بغرزه ، فوالله إنه الحق . قلت : أوليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال : بلى أفأخبرك أنا نأتيه العام ؟ قلت : لا ، قال : إنك آتيه فمطوف به . قال العلماء لم يكن سؤال عمر رضي الله عنه وكلامه المذكور شكا ، بل طلبا لكشف ما خفي ، وحثا على إذلاله للكفار وظهور الإسلام ، كما عرف في خلقه وقته في نصرة الدين ، وإذلال المبطلين . وأما جواب أبي بكر لعمر رضي الله عنهما بمثل جواب النبي صلى الله عليه وسلم فهو من الدلائل الظاهرة على عظم فضله ، وبارع علمه ، وزيادة عرفانه ، ورسوخه وزيادته في كل ذلك على غيره ، كذا في المواهب وفيه إشكال لا يخفى ، وهو أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم وعرف جوابه مفصلا ، ومن جملته قوله : إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري فكيف يسوغ له إعادة ذلك عند أبي بكر ، اللهم إلا أن يقال : أراد امتحان ما عند الصديق من التحقيق والله ولي التوفيق . هذا وفي كلامه صلى الله عليه وسلم : إني رسول الله ولست أعصيه دليل واضح أن الصلح ما وقع لضعف المسلمين ، بل لأمر من الله حقيقة بوحي ، أو بإشارة ، كما سبق من قوله صلى الله عليه وسلم : ( حبسها حابس الفيل ) ، أو بإلهام استنباط لما رأى المصلحة المترتبة على إتمام هذا الصلح ، وما ظهر من ثمراته الباهرة ، وفوائده المتظاهرة التي كان أولها فتح خيبر وتقوي المسلمين بالكراع والسلاح ، عاقبتها فتح مكة وإسلام أهلها كلهم ، ودخول الناس في دين الله أفواجا ، وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين ولا تتظاهر عندهم أمور النبي صلى الله عليه وسلم كما هي ، ولا يختلطون بمن يعلمهم بها مفصلة فلما حصل صلح الحديبية اختلطوا بالمسلمين ، وجاءوا إلى المدينة وذهب المسلمون إلى مكة ، وخلوا بأهلهم وبأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونه ، وسمعوا منهم أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعجزاته الظاهرة ، وأعلام نبوته المتظاهرة ، وحسن سيرته وجميل طريقته وعاينوا بأنفسهم كثيرا من ذلك ، فمالت نفوسهم إلى الإيمان ، حتى بادر خلق منهم إلى الإسلام قبل فتح مكة ، فأسلموا بين صلح الحديبية وفتح مكة ، وازداد الآخرون ميلا إلى الإسلام ، فلما كان يوم الفتح أسلموا كلهم لما كان قد تمهد لهم من الميل ، وكانت العرب غير قريش في البوادي ينتظرون بإسلامهم إسلام قريش ، فلما أسلمت قريش أسلمت العرب في البوادي . قال تعالى : ( إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ) فالله ورسوله أعلم .

[ ص: 2622 ] وفي المواهب اختلف العلماء هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم أم لا . فقيل ؟ نعم على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير ، وقيل : لا ، وأن الذي وقع في القصة منسوخ ، وأن ناسخه حديث : أنا بريء من مسلم بين مشركين ، وهو قول الحنفية ، وعند الشافعية يفصل بين العاقل والمجنون والصبي فلا يردان . وقال بعض الشافعية : ضابط جواز الرد أن يكون المسلم بحيث لا يجب عليه الهجرة من دار الحرب والله أعلم . قاله في فتح الباري .

وقال ابن مكي بن أبي طالب القيرواني في تفسيره : وبعث عليه السلام بالكتاب إليهم مع عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وأمسك سهيل بن عمرو عنده ، فأمسك المشركون عثمان فغضب المسلمون . وقال مغلطاي : فاحتبسته قريش عندهم ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن عثمان قد قتل ، فدعا الناس إلى بيعة الرضوان تحت الشجرة على الموت ، وقيل على أن لا يفروا اهـ . ووضع النبي صلى الله عليه وسلم شماله في يمينه وقال : هذه عن عثمان ، وفي البخاري ، فقال صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى : هذه بيعة عثمان فضرب بها على يديه . الحديث . ولما سمع المشركون بهذه البيعة خافوا وبعثوا بعثمان وجماعة من المسلمين ، وفي هذه البيعة نزل قوله تعالى : ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم ) وقوله تعالى : ( لقد رضي الله عن المؤمنين ) وأقام صلى الله عليه وسلم بالحديبية بضعة عشر يوما ، وقيل عشرين يوما ، ثم قفل في نفوس بعضهم شيء فأنزل الله تعالى سورة الفتح يسليهم ويذكرهم نعمه فقال تعالى : ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) وقال ابن عباس ، وأنس ، والبراء بن عازب رضي الله عنهم : الفتح هنا فتح الحديبية ، ووقوع الصلح بعد أن كان المنافقون يظنون أن لا ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا أي : حسبوا أنهم لا يرجعون بل كلهم يقتلون ، وأما قوله تعالى : ( وأثابهم فتحا قريبا ) فالمراد فتح خيبر على الصحيح ; لأنها وقعت فيها المغانم الكثيرة للمسلمين . وقد روى أحمد ، وأبو داود والحاكم من حديث مجمع بن جارية قال : شهدنا الحديبية ، فلما انصرفنا وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا عند كراع الغميم وقد جمع الناس وقرأ عليهم : ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) الآية . فقال رجل : يا رسول الله ، أوفتح هو ؟ قال : ( إي ، والذي نفسي بيده إنه لفتح ) . وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح ، عن الشعبي ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) الحديبية ، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وتبايعوا بيعة الرضوان ، وأطعموا نخيل خيبر ، وظهرت الروم على فارس ، وفرح المسلمون بنصر الله ، وأما قوله تعالى : ( إذا جاء نصر الله والفتح ) وقوله : ( لا هجرة بعد الفتح ) ففتح مكة باتفاق . قال الحافظ ابن حجر : فبهذا يرتفع الإشكال وتجتمع الأقوال ، والله أعلم بالأحوال اهـ .

وقصة فتح مكة مشهورة ، وفي كتب السير والمغازي مسطورة ، وإنما الخلاف في أنها فتحت عنوة ، أو صلحا ، والصحيح هو الأول لما في مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أنه ذكر فتح مكة فقال : أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل مكة ، فبعث الزبير على إحدى المجنبتين وبعث خالد بن الوليد على المجنبة الأخرى ، وبعث أبا عبيدة على الجيش ، وأخذوا من بطن الوادي ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في كتيبة أي : قطعة عظيمة من الجيش قال : فنظر إلي فقال : ( يا أبا هريرة ) قلت : لبيك يا رسول الله . قال : ( اهتف لي بالأنصار فلا يأتيني إلا أنصاري ) . فهتفت بهم فجاءوا ، فأطافوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ووبشت قريش أوباشها فقال لهم : ( ألا ترون أوباش قريش وأتباعهم ؟ ) ، ثم قال بيده فضرب بأحدهما على الأخرى وقال : ( احصدوهم حصدا حتى توافوني على الصفا ) فقال أبو هريرة : فانطلقنا فما شاء منا أحد أن يقتل ما شاء منهم إلا قتله ، الحديث بطوله . وقد سبق في المغانم زيادة على ذلك والله أعلم .




الخدمات العلمية