الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
4340 - وعن ركانة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس . رواه الترمذي ، وقال : هذا حديث حسن غريب ، وإسناده ليس بالقائم .

التالي السابق


4340 - ( وعن ركانة ) : بضم الراء وتخفيف الكاف وبالنون . قال المؤلف في فصل الصحابة : هو ابن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب القرشي ، كان من أشد الناس حديثا في الحجازيين ، بقي إلى زمن عثمان ، روى عنه جماعة . ( عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " فرق ما بيننا ) : أي الفارق فيما بيننا معشر المسلمين ( وبين المشركين العمائم على القلانس ) : بفتح القاف وكسر النون جمع قلنسوة ، وهي الطاقية وغيرها مما يلف العمامة عليها أي نحن نتعمم على القلانس ، وهم يكتفون بالعمائم ذكره الطيبي وغيره من الشراح ، وتبعهما ابن الملك وسيأتي ما ينافيه . ( رواه الترمذي ، وقال : هذا حديث غريب ، وإسناده ليس بالقائم ) . قلت : ورواه أبو داود وسكت عنه ، ولعل إسناده قائما ويحصل القيام به . وعن الجزري قال بعض العلماء السنة : أن يلبس القلنسوة والعمامة ، فأما لبس القلنسوة فهو زي المشركين لما في حديث أبي داود والترمذي عن ركانة . الحديث اهـ . وفيه أنه ينافيه ما سبق من الشراح ، لكن قال ميرك : وروي عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يلبس القلانس تحت العمائم ويلبس بغير القلانس اهـ .

ولم يرو أنه - صلى الله عليه وسلم - لبس القلنسوة بغير العمامة ، فيتعين أن يكون هذا زي المشركين ، وروى القضاعي والديلمي في مسند الفردوس ، عن علي - كرم الله وجهه - مرفوعا " العمائم تيجان العرب والاحتباء حيطانها وجلوس المؤمن في المسجد رباط " .

[ ص: 2778 ] وروى الديلمي عن ابن عباس بلفظ : العمائم تيجان العرب ، فإذا وضعوا العمائم وضعوا عزهم . وروى البارودي عن ركانة بلفظ : " العمامة على القلنسوة فصل ما بيننا وبين المشركين ، يعطى يوم القيامة لكل كورة يدورها على رأسه نورا ، وروى ابن عساكر عن ابن عمر مرفوعا : " صلاة تطوع أو فريضة بعمامة تعدل خمسا وعشرين صلاة بلا عمامة ، وجمعة بعمامة تعدل سبعين جمعة بلا عمامة " . فهذا كله يدل على فضيلة العمامة مطلقا ، نعم الجمع بين الأحاديث أنها مع القلنسوة أفضل إما ليحصل بها البهاء الزائد ، أو لأن القلنسوة تقيها من العرق ، ولهذا تسمى عرقية ، فلبسها وحدها مخالف للسنة ، كيف وهي زي الكفرة ، وكذا المبتدعة في بعض البلدان ، لكن صار شعارا لبعض مشايخ اليمن ، والله أعلم بمقاصدهم ونياتهم ، هذا وقد قال الجزري في تصحيح المصابيح قد تتبعت الكتب وتطلبت من السير والتواريخ لأقف على قدر عمامة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم أقف على شيء ، حتى أخبرني من أثق به أنه وقف على شيء من كلام النووي ، ذكر فيه أنه كان له - صلى الله عليه وسلم - عمامة قصيرة ، وعمامة طويلة ، وأن القصيرة كانت سبعة أذرع ، والطويلة اثنى عشر ذراعا اهـ .

وظاهر كلام المدخل أن عمامته كانت سبعة أذرع مطلقا من غير تقييد بالقصير والطويل ، وقد كانت سيرته في ملبسه كسائر سيره على وجه أتم ، ونفعه للناس أعم ، إذ كبر العمامة يعرض الرأس للآفات الحسية والمعنوية ، كما هو مشاهد في الفقهاء المكية والقضاة الرومية ، وصغرها لا يقي من الحر والبرد ، فكان يجعلها وسطا بين ذلك ; تنبيها على أن تعتدل في جميع أفعالك .

قال صاحب المدخل : وعليك أن تتسرول قاعدا وتتعمم قائما ، وفي شرح الشمائل لابن حجر ، قال ابن القيم ، عن شيخه ابن تيمية : أنه ذكر شيئا بديعا ، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - لما رأى ربه واضعا يده بين كتفيه أكرم ذلك الموضع بالعذبة ، قال العراقي : لم نجد لذلك أصلا يعني من السنة ، وقال ابن حجر : ، بل هذا من قبيل رأيهما وضلالهما ، إذ هو مبني على ما ذهبا إليه وأطالا في الاستدلال له ، والحط على أهل السنة في نفيهم له ، وهو إثبات الجهة والجسمية لله تعالى ، ولهما في هذا المقام من القبائح وسوء الاعتقاد ما تصم عنه الآذان ، ويقضى عليه بالزور والبهتان ، قبحهما الله وقبح من قال بقولهما ، والإمام أحمد وأجلاء مذهبه مبرءون عن هذه الوصمة القبيحة ، كيف وهي كفر عند كثيرين .

أقول : صانهما الله عن هذه السمة الشنيعة والنسبة الفظيعة ، ومن طالع شرح منازل السائرين لنديم الباري الشيخ عبد الله الأنصاري الحنبلي - قدس الله تعالى سره الجلي - وهو شيخ الإسلام عند الصوفية حال الإطلاق بالاتفاق ، تبين له أنهما كانا من أهل السنة والجماعة ، بل ومن أولياء هذه الأمة ، ومما ذكر في الشرح المذكور ما نصه على وفق المسطور هو قوله على بعض صباة المنازل ، وهذا الكلام من شيخ الإسلام يبين مرتبته من السنة ، ومقداره في العلم ، وأنه بريء مما رماه أعداؤه الجهمية من التشبيه والتمثيل على عاداتهم في رمي أهل الحديث والسنة بذلك ، كرمي الرافضة لهم بأنهم نواصب ، والنواصب بأنهم روافض ، والمعتزلة بأنهم نوائب حشوية ، وذلك ميراث من أعداء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رميه ورمي أصحابه ، بأنهم صراة قد ابتدعوا دينا محدثا ، وهذا ميراث لأهل الحديث والميمنة من نبيهم بتلقيب أهل الباطل لهم بالألقاب المذمومة ، وقدس الله روح الشافعي حيث يقول ، وقد نسب إليه الرفض :


إن كان رفضا حب آل محمد فليشهد الثقلان أني رافضي

ورضي الله عن شيخنا أبي عبد الله بن تيمية حيث يقول :


إن كان نصبا حب صحب محمد فليشهد الثقلان أني ناصبي

وعفا الله عن الثالث حيث يقول :


فإن كان تجسيما ثبوت صفاته وتنزيهها عن كل تأويل مفتر
فإني بحمد الله ربي مجسم هلموا شهودا واملئوا كل محضر

[ ص: 2779 ] ثم بين في الشرح المذكور ما يدل على براءته من التشنيع المسطور ، والتقبيح المزبور ، وهو ما نصه : إن حفظه حرمة نصوص الأسماء والصفات بإجراء أخبارها على ظواهرها ، وهو اعتقاد مفهومها المتبادر إلى أفهام العامة ، ولا نعني بالعامة الجهال ، بل عامة الأمة ، كما قال مالك رحمه الله ، وقد سئل عن قوله تعالى : الرحمن على العرش استوى كيف استوى ؟ ، فأطرق مالك رأسه حتى علاه الرحضاء ، ثم قال : الاستواء معلوم ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .

فرق بين المعنى المعلوم من هذه اللفظة ، وبين الكيف الذي لا يعقله البشر ، وهذا الجواب من مالك - رحمه الله - شاف عام في جميع مسائل الصفات من السمع والبصر والعلم والحياة والقدرة والإرادة والنزول والغضب والرحمة والضحك ، فمعانيها كلها معلومة ، وأما كيفيتها فغير معقولة ، إذ تعقل الكيف فرع العلم بكيفية الذات وكنهها ، فإذا كان ذلك غير معلوم ، فكيف يعقل لهم كيفية الصفات ؟ والعصمة النافعة من هذا الباب أن يصف الله - بما وصف به نفسه : ووصف به رسوله من غير تحرير ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل ، بل يثبت له الأسماء والصفات ، وينفي عنه مشابهة المخلوقات ، فيكون إثباتك منزها عن التشبيه ، ونفيك منزها عن التعطيل ، فمن نفى حقيقة الاستواء فهو معطل ، ومن شبهه باستواء المخلوقات على المخلوق فهو مشبه ، ومن قال : هو استواء ليس كمثله شيء فهو الموحد المنزه اهـ كلامه . وتبين مرامه ، وظهر أن معتقده موافق لأهل الحق من السلف وجمهور الخلف ، فالطعن الشنيع والتقبيح الفظيع غير موجه عليه ولا متوجه إليه ، فإن كلامه بعينه مطابق لما قاله الإمام الأعظم ، والمجتهد الأقدم في فقهه الأكبر ما نصه : " وله تعالى يد ووجه ونفس ، فما ذكر الله في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس فهو له صفات بلا كيف ، ولا يقال إن يده قدرته أو نعمته ; لأن فيه إبطال الصفة ، وهو قول أهل القدر والاعتزال ، ولكن يده صفته بلا كيف ، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف اهـ .

وحيث انتفى عنه اعتقاد التجسيم ، بالمعنى الذي ذكره في الحديث الكريم له وجه وجيه ظاهر ، وتوجيه لأهل - التنبيه باهر ، سواء رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه في المنام ، أو تجلى الله - سبحانه - عليه بالتجلي الصوري المعروف عند أرباب الحال والمقام ، وهو أن يكون مذكرا بهيئته ، ومفكرا برؤيته الحاصلة من كمال تجليته ، والله أعلم بأحوال أنبيائه أو أصفيائه الذين رباهم بحسن تربيته ، وجلى مرائي قلوبهم بحسن تجليته ، حتى شهدوا مقام الحضور والبقاء ، وتخلصوا عن صداء الحظور والفناء ، رزقنا الله أشواقهم ، وأذاقنا أحوالهم وأخلاقهم ، وأحيانا على طريقتهم ، وأماتنا على محبتهم ، وحشرنا في زمرتهم .




الخدمات العلمية