الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
4460 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد ، وكان له شعر فوق الجمة ، ودون الوفرة . رواه الترمذي .

التالي السابق


4460 - ( وعن عائشة قالت : كنت أغتسل أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) : بالرفع ، وفي نسخة صحيحة بالنصب . قال ميرك شاه قوله : ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنصب مفعول معه ، وبالرفع عطف جملة على جملة ، وأبرز الضمير ليصح العطف أي : أغتسل أنا ويغتسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو عطف على المستتر ، وفيه تغليب المتكلم على الغائب ، وفيه : اسكن أنت وزوجك الجنة ، تغليب المخاطب على الغائب . فإن قلت : الفائدة في تغليب " اسكن " أن آدم كان أصلا في سكنى الجنة ، وحواء تابعة له ، فما الفائدة فيما نحن فيه ؟ قلنا : وكذلك هنا ، فإن النساء محل الشهوات ، أو حاملات للغسل ، فكأنهن أصل في هذا الباب اهـ . وتقدم مثل هذا عن الطيبي في أول الكتاب ، أو لأن الأصل إخبار الشخص عن نفسه ، ولعل هذا هو الأظهر ، ويحتمل أن يكون الماء معدا لغسلها ، وشاركها النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا قيل . ولكن مع بعده يأبى عنه قولها : كنت ، فإنه يدل عرفا أو لغة على الدوام والاستمرار ، ثم قولها : ( من إناء واحد ) : متعلق بأغتسل ، وهو يحتمل أن يقع الغسلان متعاقبين ، ومن المعلوم تقدمه - صلى الله عليه وسلم - كما هو شأن الأدب ، ويحتمل المعية ، وعلى تقديرها يحتمل التستر كما هو الظاهر من جمال حالهما وكمال حيائهما ، وعلى تقدير التكشف يحتمل عدم النظر إلى العورة ، بل هو صريح في بعض الروايات عن عائشة - رضي الله عنها : ما رأيت فرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا شك أنه - صلى الله عليه وسلم - كان أشد حياء منها ، وقد جاء أيضا في رواية عنها : ما رأيت منه ولا رأى مني يعني الفرج ، وبه اندفع ما نقله ميرك عن بعض الفضلاء من أن في الحديث دليلا على جواز نظر الرجل إلى عورة امرأته وبالعكس ، وأنت تعلم أن الاستدلال لا يصح مع الاحتمال . قال : ويؤيده ما روى ابن حبان أن سليمان بن موسى سئل عن هذه المسألة يعني عن الرجل ينظر إلى عورة امرأته فقال : سألت عطاء ، فقال : سألت عائشة - رضي الله عنها - فذكرت هذا الحديث بمعناه وهو نص في المسألة اهـ .

وفي كونه نصا محل نظر إذ على تقديره يناقض ما سبق عنها ، فعلى فرض صحته يحمل على ما عدا الفرج من الأفخاذ ونحوها ، فإنه ربما ينكشف عند الاغتسال ، وبه يزول الإشكال ، والله أعلم بالحال . ثم قيل : في [ ص: 2832 ] الحديث دليل على أن الاغتراف من الماء القليل لا يجعل الماء مستعملا ، وفيه أن الظاهر من حالهما غسل أيديهما خارج الإناء ، ثم تناولهما الماء . قال ميرك : ووقع في رواية البخاري من إناء واحد من قدح فقيل : " من " الأولى ابتدائية والثانية بيانية ، والأولى أن يقال : من قدح بدل من إناء بإعادة الجار ، ووقع في رواية أخرى : من إناء واحد من جنابة ، فـ " من " الثانية تعليلية أي من أجلها وبسببها . قال ابن التين : كان هذا الإناء من شبه ، وهو بفتح المعجمة والموحدة نحاس أصفر ، وكان مستنده ما رواه الحاكم من طريق حماد بن سلمة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ولفظه : من تور من شبه ، والتور على ما في القاموس إناء يشرب فيما يذكر ، وفي رواية للبخاري : من إناء يقال له الفرق ، وهو بفتحتين ، ويروى بتسكين الراء . واختلف في مقداره ، والمشهور عند الجمهور أنه ثلاثة آصع ، وقيل : صاعان ، ويؤيد الأول ما رواه ابن حبان من طريق عطاء عن عائشة بلفظ : قدره ستة أقساط ، والقسط بكسر القاف نصف صاع باتفاق أهل اللغة ، والجمع بين التور والفرق أن الفرق كان موضوعا ، والتور جعل آلة للفرق ، وبه بطل استدلال عدم الاستعمال بكل حال ، هذا واختار بعض العلماء جواز اغتسال الرجل بفضل المرأة وعكسه ، وعليه الجمهور . وبعضهم على جواز طهارة المرأة بفضل الرجل دون العكس ، وقيد بعضهم المنع فيما إذا خليا به ، والجواز فيما إذا اجتمعا ، وتمسك كل بظاهر خبر دل على ما ذهب إليه ، وعلى تقدير صحة الجميع يمكن الجمع بحمل النهي على ما تساقط من الأعضاء ، والجواز على ما بقي في الإناء بذلك جمع الخطابي ، وجمع بعضهم بأن الجواز فيما إذا اغترفا معا ، والمنع فيما إذا اغترف أحدها قبل الآخر . قلت : ولم يظهر فرق على هذا الجمع ، والظاهر أن يقال : يحمل النهي على ما إذا تساقط الماء من الأعضاء المستعملة في الإناء ، والجواز على ما إذا لم يقع فيه شيء من الماء المستعمل ، وقد حمل بعضهم النهي على التنزيه والفعل على الجواز ، والله أعلم .

( وكان له ) : أي لرأسه الشريف ( شعر ) : أي نازل ( فوق الجمة ) : بضم الجيم وتشديد الميم ما سقط من المنكبين ( ودون الوفرة ) : بفتح الواو وسكون الفاء بعده راء ما وصل إلى شحمة الأذن ، كذا في جامع الأصول والنهاية وشرح السنة ، وهذا بظاهره يدل على أن شعره - صلى الله عليه وسلم - كان أمرا متوسطا بين الجمة والوفرة ، وليس بجمة ولا وفرة إذ معنى فوق الجمة أن شعره لم يصل إلى محل الجمة وهو المنكب ، ومعنى ( دون الوفرة ) أن شعره كان أنزل من شحمة الأذن ، لكن جاء في بعض الروايات أنه - صلى الله عليه وسلم - كان عظيم الجمة إلى شحمة أذنيه ، وهذا ظاهر أن شعره كان جمة ، وعلى أن جمته مع عظمها إلى أذنيه ، ولعل ذلك باعتبار اختلاف أحواله اهـ . ( رواه الترمذي ) : أي في جامعه ، وقال : حديث حسن غريب صحيح من هذا الوجه . ورواه في شمائله أيضا بهذا اللفظ .

وفي رواية أبي داود قالت : كان شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوق الوفرة دون الجمة ، كذا في جامع الأصول ، قال ميرك : كذا وقع في الشمائل . ورواه أبو داود بهذا الإسناد ، وقال : فوق الوفرة دون الجمة ، قيل : وهو الصواب ، وقد جمع بينهما العراقي في شرح جامع الترمذي ، بأن المراد من قوله : فوق ودون تارة بالنسبة إلى المحل ، وتارة بالنسبة إلى المقدار ، فقوله : فوق الجمة أي أرفع منها في المحل ، ودون الجمة أي أقل منها في المقدار ، وكذا في العكس . قال العسقلاني في شرح البخاري : وهو جمع جيد لولا أن مخرج الحديث متحد معنى اهـ . قال الحنفي : فيه بحث لأن مآل الروايتين على هذا التقدير متحد معنى ، والتفاوت بينهما إنما هو في العبارة ، فلا يقدح فيه اتحاد مخرج الحديث . غاية ما في الباب أن عائشة - رضي الله عنها - أو من دونها أدت أو أدى معنى واحدا لعبارتين ولا غبار عليه . ثم قال : ويمكن أن يقال : لعل اغتسال عائشة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد وقع متعددا ، ويكون ذلك الاختلاف ناشئا من اختلاف الأحوال اهـ .

ولا يخفى أنه مبني على أن جملة : وكان . . إلخ . حال ، وأما إذا كانت معطوفة على ما هو الظاهر ، فلا تعلق به بالاغتسال ، ويكون المروي حديثين مستقلين ، وإن كانا وقعا متعاطفين ، مع أنه على تقدير صحة ما قال من الحال يلزم أن يكون في كل اغتسال يختلف الحال ، وهو غير ملائم كما لا يخفى على ذوي النهي ، ثم اعلم أن ابن حجر ذكر الحديث في شمائله بلفظ : وأنزل من الوفرة . قال : أي من محلها وهو شحمة الأذن ، وهذه الرواية بمعنى رواية أبي داود ، ثم قال : نعم في نسخ هنا فوق الجمة دون الوفرة ، وهذه عكس رواية أبي داود اهـ . وقوله : " أنزل من الوفرة " غير موجود في الأصول المعتمدة ، والنسخ المصححة ، ولا أحد من الشراح أيضا ذكره .

[ ص: 2833 ]



الخدمات العلمية