الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
4471 - وعن ثوبان - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر ، كان آخر عهده بإنسان من أهله فاطمة ، وأول من يدخل عليها فاطمة ، فقدم من غزاة وقد علقت مسحا أو سترا على بابها ، وحلت الحسن والحسين قلبين من فضة ، فقدم فلم يدخل ، فظنت أن ما منعه أن يدخل ما رأى ، فهتكت الستر ، وفكت القلبين عن الصبيين ، وقطعته منهما ، فانطلقا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبكيان ، فأخذه منهما فقال : " ياثوبان ! اذهب بهذا إلى فلان ، إن هؤلاء أهلي أكره أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا . يا ثوبان ! اشتر لفاطمة قلادة من عصب ، وسوارين من عاج " . رواه أحمد ، وأبو داود .

التالي السابق


4471 - ( وعن ثوبان ) : أي مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - ( قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) : أي من عادته ( إذا سافر ، كان آخر عهده ) : أي وصيته وأمره وحديثه وموادعته ( بإنسان من أهله ) : أي من بين بناته ونسائه ( فاطمة ) : أي عهدها ليصح الحمل وهي خبر كان ( وأول من يدخل عليها ) : أي من أهله إذا قدم ( فاطمة ) : بالنصب ، وقيل : بالرفع ( فقدم من غزاة ) : أصلها عزوة فنقلت حركة الواو إلى الزاي ، وقلبت ألفا لتحركها في الأصل ، وانفتاح ما قبلها الآن ، وقيل : ما قبل تاء التأنيث متحرك تقديرا إذ السكون عارض ( وقد علقت ) : أي فاطمة ( مسحا ) : بفتح الميم أي بلاسا ( أو سترا ) : بكسر أوله أو للشك ( على بابها ) : أي للزينة لأنها لو كانت للسترة لم ينكر عليها ، اللهم إن كان فيها تماثيل فالإنكار بسببها ، والله أعلم .

( وحلت ) : بتشديد اللام وأصله حليت من التحلية فقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، ثم حذفت لالتقاء الساكنين ، وإنما حركت التاء هنا في الوصل لالتقاء الساكنين أيضا ، فحركتها عارضية لا أصلية ، والمعنى زينت فاطمة بإلباسها ( الحسن والحسين قلبين ) : بضم القاف أي سوارين ( من فضة ) : وفيه احتمالان ، وهو ألبست كل واحد منهما قلبين أو قلبا ( فقدم ) : تأكيد للطول بالجمل الحالية ، وتقريب لما يترتب عليه من حصول الفصول ( فلم يدخل ) : أي بيت فاطمة لما رأى بنور النبوة وظهور المكاشفة تستر بابها وتغيير جنابها بإلباس أولادها ما لا يجوز لهما من اللبس . ( فظنت أن ما ) : هي موصولة فحقها أن تكتب مفصولة أي فغلب على ظنها أن الذي ( منعه أن يدخل ) : أي من دخول بيتها أولا على وجه المعتاد ( ما رأى ) : هي صدرية فاعل منعه ، أو موصولة أي ما رآه من التستر والتغير ، وتوضيح الكلام في هذا المقام لحصول المرام على وجه التمام هو أن ( أن ) بفتح الهمزة و " ما " أي أن ما يحتمل أن تكون كافة بمعنى " ما " وفاعل منعه ما رأى أي منعه من الدخول إلا ما رآه من تعليق أحد السترين وتحليه الحسنين ، فحينئذ تكتب " ما " موصولة ، وأن تكون موصولة ومنعه صلته ، وفاعله ضمير يعود إلى " ما " ورأى خبر أن أي الذي منعه من الدخول ما رآه ، فعلى هذا تكتب " ما " موصولة ، وعليه أكثر ، و " ما " في رأى موصولة أو مصدرية ، والله أعلم . ( فهتكت الستر ) : شقته وكشفته ( وفكت ) : بتشديد الكاف أي ( القلبين ) : أي تقليبهما وتطويقهما ( عن الصبيين ، وقطعته ) : أي ما بأيدي الصبيين أو كلا من القلبين ( منهما ) : أي أيدي الصبيين أو فصلت كلا من الصبيين عن القلبين وهو عطف تفسير ، وحاصله عدم تعلق القلبين بالقلبين لقوله تعالى : ما جعل الله لرجل من قلبين ( فانطلقا ) : أي الحسنان ( إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبكيان ) ، أي على عادة الصغار من التعلق ولو بالأحجار ( فأخذه منهما ) ، قال الأشرف : أي أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء من الرأفة والرقة عليهما .

قلت : لا يلائمه ما بعده مع احتياجه إلى تقدير أمر زائد ، والأظهر أن فاطمة بعد فك القلبين أرسلتهما في أيدي الحسنين لأن يتصدق بهما ، فأخذه أي ما في أيدهما أو كلا من القلبين منهما أي من الحسنين وأعطاه لثوبان ( فقال يا ثوبان ! اذهب بهذا ) أي بكل من القلبين ، وقيل : إشارة إلى القلب ، أو ما أعطاه من الدراهم ( إلى آل فلان ) ، أي أهل بيت مشهور بالفقر والحاجة .

قال الطيبي - بعد نقل كلام الأشرف - ويجوز أن يكون الضمير واقعا موقع اسم الإشارة ، أي أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك أي القلب المفكك ، ويدل على أنه بمعنى اسم الإشارة التصريح لقوله اذهب بهذا وهذا للتحقير اهـ . وفي كون الإشارة محل تفتيش وتنقير ، نعم إن أريد به التحقير المعنوي من حيث إنه بالنسبة إلى بعضهم من زيادة التنعم الصوري له وجه وجيه ، وتنبيه نبيه ، كما يشير إليه قوله - صلى الله عليه وسلم - ( إن هؤلاء ) : أي الحسنان ووالداهما

[ ص: 2838 ] ( أهلي ) : أي أهل بيتي بالخصوص من بين العموم بدل أو بيان لهؤلاء وخبر أن قوله : ( أكره ) : أو أهلي هو الخبر وأكره استئناف تعليل أي لأني أكره لهم كما لنفسي ( أن يأكلوا طيباتهم ) : أي يتلذذوا بطيب طعام ولبس نفيس ونحوها ( في حياتهم الدنيا ) ، بل اختار لهم الفقر والرياضة في حياتهم ليكون درجاتهم في الجنة أعلى ، ومقدماتهم في مراتب لذاتهم أعلى ، ولئلا يكونوا متشبهين بمن قال تعالى في حقهم : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا ، فقد روى ابن ماجه والحاكم عن سلمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم : " أن أكثر الناس شبعا في الدنيا أطولهم جوعا يوم القيامة " قال الطيبي قوله : " إن هؤلاء " استئناف لبيان الموجب للمنع ، وأهلي خبر لـ ( أن ) فالإتيان باسم الإشارة للتعظيم ، فالمعنى لا يجوز هذا المحقر لهؤلاء العظام ، وقوله : ( أكره ) استئناف آخر ( يا ثوبان ! اشتر ) : بكسر الراء وجوز سكونها ( لفاطمة قلادة ) : بكسر القاف ما يعلق في العنق ( من عصب ) : بفتح العين وسكون الصاد المهملتين ويفتح ، سن حيوان في النهاية ، قال الخطابي في المعالم : إن تكن الثياب اليمانية فلا أدري ما هو ، وما أرى أن القلادة تكون منها . وقال أبو موسى : يحتمل عندي أن الرواية إنما هي العصب بفتح الصاد وهو إطناب مفاصل الحيوان ، وهو شيء مدور فيحتمل أنهم كانوا يأخذون عصب بعض الحيوانات الطاهرة فيقطعونه : ويجعلونه شبه الخرز ، فإذا يبس يتخذون منه القلائد ، إذا جاز وأمكن أن يتخذ من عظام السلحفاة وغيرها الأسورة جاز ، وأمكن أن يتخذ من عصب أشباهها خرز ينظم منها القلائد . قال : ثم ذكر في بعض أهل اليمن أن العصب من دابة بحرية تسمى فرس فرعون يتخذ منها الخرز وغيرها من نصاب سكين وغيره ، ويكون أبيض . ( وسوارين من عاج ) : قال التوربشتي : ذكر الخطابي في تفسيره أن العاج هو الذيل ، وهو عظم ظهر السلحفاة البحرية ، ونقل ذلك عن الأصمعي ، ومن العجيب العدول عن اللغة المشهورة إلى ما لم يشتهر بين أهل اللسان ، والمشهور أن العاج عظم أنياب الفيلة ، وعلى هذا يفسره الناس أولهم وآخرهم ، قلت : لعل وجه العدول أن عظم الميت نجس عندهم ، بل عند الإمام محمد من أئمتنا أن الفيل نجس العين . وقد قال النووي : طهارة عظم الحيوان لا تحصل إلا بالزكاة في مأكول اللحم إذا قلنا بالضعيف أن عظام الميتة طاهرة ذكره في الروضة ، وذكر السيد جمال الدين أنه قال الخطابي ناقلا عن الأصمعي : إن العاج هو الذيل وهو عظم ظهر السلحفاة البحرية ، ويجوز استعماله لأنه جزء حيوان طاهر بحري ، وأما العاج أي عظم الفيل فنجس عند الشافعي ، طاهر عند أبي حنيفة ، وفيه قول للشافعي أيضا فلا يبعد حمله هاهنا اهـ .

وقال صاحب القاموس : العاج الذيل ، وعظم الفيل ، والذيل جلد السلحفاة البحرية أو البرية ، أو عظام ظهر دابة بحرية يتخذ منها الأسورة والأمشاط اهـ . ولعل القلبين كانا في يدي فاطمة - رضي الله عنها - وألبستهما الحسنين على أنه يجوز لهما لبسهما ، فلما عاقبها النبي - صلى الله عليه وسلم - بهجرتها ، وعاتبها على ما صدر منها في صورة عصيانها ، وكفرها بالصدقة عنها وعن أولادها جبرها بشراء القلادة والسوارين لتلبسهما احترازا من التشبه بالرجال ، وإظهارا للتقنع بأخشن الأحوال الموجب لأحسن الآمال في المآل ، والله أعلم بالحال . ( رواه أحمد ، وأبو داود ) .




الخدمات العلمية