الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
4755 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أخنى الأسماء يوم القيامة عند الله رجل يسمى ملك الأملاك " . رواه البخاري . وفي رواية لمسلم ، قال : " أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه رجل كان يسمى ملك الأملاك لا ملك إلا الله " .

التالي السابق


4755 - ( وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أخنى الأسماء ) : بسكون الخاء المعجمة بعدها نون أي : أقبحها ، وروي أخنع أي : أذلها وأوضعها باعتبار مسماه ( يوم القيامة عند الله ) أي : وإن كان اليوم عند عامة الناس أعظم الأسماء وأكرمها ( رجل ) أي : اسم رجل ( يسمى ) : بصيغة المجهول من التسمية ، نص عليه السيد جمال الدين ، وهو المطابق لما في النسخ المصححة ، وفي نسخة بفتح الفوقية وتشديد الميم ماض معلوم من التسمي مصدر من باب التفعل . قال بعضهم : وقع في أكثر نسخ المصابيح بصيغة المجهول من التسمية ، وكذا رأيته في أصل مصحح من كتاب مسلم ، ووقع في بعض النسخ بصيغة المعروف من التسمي ثم قوله : ( ملك الأملاك ) : منصوب على المفعولية ، والأملاك جمع ملك كالملوك على ما في القاموس ، وقد فسره سفيان الثوري ، فقال : هو شهنشاه يعني : شاه شاهان بلسان العجم ، وقدم المضاف إليه ثم حذف الألف وفتح الهاء تخفيفا وهو بالعربي سلطان السلاطين . ( رواه البخاري وفي رواية لمسلم ، قال ) أي : النبي عليه السلام ( أغيظ رجل ) : اسم تفضيل بني للمفعول أي : أكثر من يغضب عليه ويعاقب ، فإن الغيظ غضب العاجز عن الانتقام ، وهو مستحيل في حقه سبحانه ، فيكون كناية عن شدة كراهة هذا الاسم أو مجازا عن عقوبته للتسمي بالاسم الآتي ، وأضيف إلى مفرد بمعنى الجمع أي : أشد أصحاب الأسماء الكريهة عقوبة ( على الله ) : بحذف مضاف أي : بناء على حكمه ( يوم القيامة وأخبثه ) أي : حالا ومقاما ( رجل كان يسمى ملك الأملاك ) : وهو من التسمية بصيغة المجهول في جميع الأصول ، والمفهوم من كلام ابن حجر أنه بصيغة الفاعل ؛ حيث قال أي : يسمي نفسه بذلك فيرضى أن اسمه على ذلك ( لا ملك ) أي : لا سلطان ( إلا الله ) : والجملة استئناف لبيان تعليل تحريم التسمية ، فبين أن الملك الحقيقي ليس إلا هو ، وملكية غيره مستعارة ، فمن سمي بهذا الاسم نازع الله بردائه وكبريائه ، وقد قال تعالى في الحديث القدسي : الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني فيهما قصمته ، ولما استنكف أن يكون عبد الله جعل له الخزي على رءوس الأشهاد ، وهذا مجمل الكلام في مقام المرام وفي الجامع الصغير : رواه الشيخان وأبو داود والترمذي . ولفظه : " أخنع الأسماء عند الله يوم القيامة رجل يسمى ملك الأملاك لا مالك إلا الله " اهـ .

وظاهره أن الأملاك جمع الملك بالكسر ، فيكون بهذا المعنى أيضا مذموما على أنه يمكن أن يقرأ " ملك " " مالك " ، كما في قوله تعالى : مالك يوم الدين ، وهو مرسوم بحذف الألف اتفاقا والله أعلم . وقال الطيبي : لا بد في الحديث من الحمل على المجاز ؛ لأن التقييد بيوم القيامة ، مع أن حكمه في الدنيا كذلك للإشعار بترتيب ما هو مسبب عنه من إنزال الهوان ، وحلول العقاب ، والرواية الأخرى لمسلم : أخنع اسم عند الله . وقال الشيخ محيي الدين : سأل أحمد بن حنبل ، أبا عمرو عن أخنع ، فقال : أوضع ، والمعنى : أشد ذلا وصغارا يوم القيامة اهـ .

وقوله : رجل يسمى خبر أخنع ، ولا بد من التأويل ليطابق الخبر المبتدأ وهو على وجهين أحدهما : أن يقدر مضاف في الخبر ، أي : اسم رجل . وثانيهما : أن يراد بالاسم المسمى مجازا ، أي : أخنى الرجال رجل كقوله تعالى : سبح اسم ربك الأعلى ، وفيه من المبالغة أنه إذا قدس اسمه عما لا يليق بذاته ، فكأن ذاته بالتقديس أولى ، وهنا إذا كان الاسم محكوما عليه بالهوان والصغار ، فكيف بالمسمى ، فإذا كان حكم الاسم ذلك ، فكيف بالمسمى ، وهذا إذا كان رضي المسمى بذلك الاسم واستمر عليه و لم يبدله ، وهذا التأويل أبلغ من الأول وأولى ؛ لأنه موافق لرواية : أغيظ رجل . قال القاضي أي : أكبر من يغضب عليه غضبا ، اسم تفضيل بني للمفعول كألوم ، وأضافه إلى المفرد على إرادة الجنس والاستغراق فيه . قال الطيبي : وعلى هنا ليست بصلة لأغيظ كما يقال : اغتاظ على صاحبه وتغيظ عليه ؛ لأن المعنى يأباه كما لا يخفى ، ولكن بيان كأنه لما قيل : أغيظ رجل قيل :

[ ص: 2999 ] على من ؟ قيل : على الله كقوله تعالى : هيت لك ، فإن لك بيان لاسم الصوت . قلت : التقدير ما أفاد التغيير ليكون دفع الفساد ، بل وقع في عين ما أراد منه الشراح ، ثم لي نظيره ما ذكره من الآية ، فإن الغيظ تعديته بعلى في أصل اللغة بخلاف هيت ، فإنه ليس بمتعد أصلا ، بل معناه أقبل وبادر أو هيأت ، والكلمة على الوجهين اسم فعل بني على الفتح عند جمهور القراء كأين ، واللام للتبيين كالتي في سقيا لك ، فالأولى ما أولناه أولا . وفي النهاية هذا مجاز الكلام معدول عن ظاهره ، فإن الغيظ صفة تعتري المخلوق عند احتداده يتحرك لها ، والله تعالى يتعالى عن ذلك ، وإنما هو كناية عن عقوبته للمسمى بهذا الاسم أي : إنه أشد أصحاب هذه الأسماء عقوبة عند الله سبحانه .

قال الطيبي : إن الغيظ والغضب من الأعراض النفسانية لها بدايات وغايات ، فإذا وصف الله تعالى بها يتعين حملها على الغايات من الانتقام بإنزال الهوان وحلول العقاب ، لا على بداياتها من التغيير النفساني ، فعلى هذا في على معنى الوجوب أي : واجب على الله تعالى على سبيل الوعيد أن يغيظ عليه ، وينكل به ، ويعذبه أشد العذاب . قلت وهذا غاية كلام صاحب النهاية ، غايته أنه زاد في معنى على أنه للوجوب ، وهو لا يصح في هذا المقام ؛ لأن الله تعالى لا يجب عليه شيء لذاته ، وإنما يجب وقع ما أخبر به إذا كان على سبيل التحتم ، كما في قوله تعالى : " إن الله لا يغفر أن يشرك به " ، فحينئذ يقال : إنه يجب وقوع عذاب الكفار ، وإلا يقع الخلف في إخباره تعالى عن ذلك ، فهذا واجب لغيره ، وهو لا يصح في هذا المحل ؛ لأن ما عدا الشرك تحت المشيئة ، فلا يصح أن يقال : واجب عليه تعالى على سبيل الوعيد أن يعذبه فتدبر وتأمل ، لئلا تقع في الخلل والخطل ، وقد أوضحت هذه المسألة في رسالتي المسماة بالقول السديد في خلف الوعيد ، هذا وفي شرح مسلم للنووي عند قوله : ملك الأملاك ، زاد ابن أبي شيبة في روايته : لا مالك إلا الله . قال سفيان : مثل شاهنشاه .

وقال القاضي عياض : وقع في رواية شاه شاه . قال : وزعم بعضهم أن الأصوب شاه شاهان . قلت : كذلك حتى يصح الإضافة أو يقدر مضاف ، فيقال : شاه كل شاه . قال القاضي : فلا ينكر مجيء ما جاءت به الرواية ؛ لأن كلام العجم مبني على التقديم والتأخير في المضاف والمضاف إليه . قلت : هذا إنما يستقيم في شاهنشاه . قال الطيبي : فيتغير الاعتبار ، فيكون المعنى : شاهانراشاه . قلت : والتحقيق ما قدمناه ، فلا يحتاج إلى زيادة الراء على ما بيناه . ثم قال القاضي عياض : ومنه قولهم شاه : ملوك ، وشاهان : الملوك ، وكذا ما يقولون : قاضي القضاة . قال الطيبي : ومما يلحق به ملك شاه ، وتأول بعضهم قوله باسم ملك الأملاك . أي : تسمى باسم الله عز وجل كقوله : الرحمن الجبار العزيز . وفي شرح السنة : والذي قاله سفيان أشبه ، وكل له وجه .




الخدمات العلمية