الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
4853 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم : حسبك من صفية كذا وكذا - تعني قصيرة - فقال : " لقد قلت كلمة لو مزج بها البحر لمزجته " . رواه أحمد والترمذي وأبو داود .

التالي السابق


4853 - ( وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم : حسبك من صفية ) أي : من عيوبها البدنية ( كذا وكذا ) : كناية عن ذكر بعضها ، وهو كذا في جميع نسخ المشكاة ، وقيل : هذا تحريف في كتاب المصابيح ، والصواب حسبك من صفية أنها كذا كذا . ( تعني ) أي : تريد عائشة بقولها كذا وكذا ( قصيرة ) أي : كونها قصيرة قال شارح لها : كذا إشارة إلى شبرها . قلت : الظاهر من تكرار كذا تعدد نعتها ، فلعلها قالت بلسانها قصيرة ، وأشارت بشبرها أنها في غاية من القصر ، فأرادت التأكيد بالجمع بين القول والفعل ، والله أعلم . ( فقال : لقد قلت كلمة ) أي : طويلة عريضة ومرة نتنة عند أرباب الحواس الكاملة ( لو مزج ) : بصيغة المجهول أي : لو خلط ( بها ) أي : على فرض تجسيدها وتقدير كونها مائعا ( البحر ) أي : ماؤه ( لمزجته ) . أي : غلبته وغيرته قال القاضي : المزج الخلط والتغيير بضم غيره إليه ، والمعنى : أن هذه الغيبة لو كانت مما يمزج بالبحر لغيرته عن حاله مع كثرته وغزارته ، فكيف بأعمال قذرة خلطت بها ؟ وقال التوربشتي : قد حرفت ألفاظ هذا الحديث في المصابيح ، والصواب لو مزجت بالبحر لمزجته .

قال الطيبي : قد ورد هذا الحديث كما في المصابيح والمتن في نسخة مصححة من سنن أبي داود ، ولعل التخطئة من أجل الدراية لا الرواية ، إذ لا يقال مزج بها البحر ، بل مزجت بالبحر ، ويمكن أن يقال : إن المزج والخلط يستدعيان الامتزاج والاختلاط ، وكل الممتزجين يمتزج بالآخر ، يعني : مع قطع النظر عن الكثرة والقلة والمائعية والجامدية ، كأن الأصل هو الفصل عن أرباب الفضل ثم . قال تعالى : فاختلط به نبات الأرض ، الكشاف : وكان حق اللفظ فاختلط بنبات الأرض ، ووجه صحته أن كل واحد منهما موصوف بصفة صاحبه ، [ ص: 3047 ] على أن هذا التركيب أبلغ ; لأنه حينئذ من باب عرضت الناقة على الحوض ، أقول : فيه أبحاث ، أما أولا ، فينبغي أن تكون الدراية تابعة للرواية ، فتخطئة المحدثين ليس من شأن أرباب العناية ، فلا بد من تنبيه نبيه وتوجيه وجيه بعد ثبوت هذا اللفظ ممن أوتي جوامع الكلم وبدائع الحكم ، وأما ثانيا فقوله : يقال مزجت بالبحر لا مزج بها ; سببه أنه ينسب القليل إلى الكثير لا عكسه عرفا وعادة ، وإن جاز لغة فإنه يقال : اختلط اللبن بالماء وعكسه تفاضلا وتساويا ، فنقول : في الحديث الشريف إشارة لطيفة إلى أن هذه الكلمة منك ولو كانت صغيرة وقليلة عندك ، فهي عند الله كبيرة وكثيرة ; بحيث لو مزج بها البحر بأجناسها وأصنافها وأنواعها ووسعها من طولها وعرضها وعمقها لغلبته ، وهذا من البلاغة غاية مبلغها ، وفي البليغ من الزجر نهاية حدها ومنتهاها ، وأما ثالثا : فقول الكشاف في قوله تعالى : فاختلط به نبات الأرض ، حق اللفظ فاختلط نبات الأرض ، خطأ فاحش ; لأنه ليس المعنى على أنه اختلط بالماء نبات الأرض ، إذ ليس تحته طائل ، بل الصواب أن الباء للسببية ، وأن المختلط هو بعض نبات الأرض ببعضه ، وتوضيحه أن المطر سابق وجوده على تحقق النبات على ما أشارت إليه فاء التعقيبة في قوله تعالى : إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض الآية ، فكيف يتصور اختلاطهما ؟ ، وأما رابعا فقوله : إنه من باب عرضت الناقة على الحوض ، ممنوع ومدفوع بأن العرض إنما يكون على أرباب التمييز ، فبهذه القرينة يعرف أن الكلام مقلوب بخلاف ما نحن فيه ، فإن بكل من الطرفين قابلية الخلط على ما بيناه .

فإن قلت : لعل صاحب الكشاف أراد اختلاط أثر ماء المطر بما ينبت به الأرض من الحبة مثلا ، قلت : الظاهر أن هذا مطمح نظره ومطلع فكره ، لكنه يرده قوله تعالى : فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح ، إذ تعقيبية الإصباح المذكور إنما هو عند حصول اختلاط النبات بعضها ببعض لا حين اختلاط الماء بالحب والنوى ، كما لا يخفى ، ومما يدل صريحا على كون الباء للسببية قوله تعالى : وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء ، ثم رأيت الكشاف اختار ما اخترناه وحرر ما حررناه ; حيث قال : فالتفت بسببه وتكاثف حتى خالط بعضه بعضا ، ثم قال : وقيل : تجمع في النبات الماء فاختلط به حتى روي ورف رفيفا ، وكان حق اللفظ على هذا التفسير فاختلط بنبات الأرض ، ووجه صحته أن كلا من المختلطين موصوف بصفة صاحبه . اهـ كلامه . فالاعتراض يحول إلى ما قيل ، ويتوجه عليه أيضا من جهة تحريره وتوجيهه وتقريره ، ويبين أن نقل الطيبي محمول على تقصيره ، ثم لا يخفى ما فيه من الدسيسة الاعتزالية في قوله : وحق اللفظ مع سوء الأدب بالنسبة إلى الآية القرآنية ، والله ولي دينه وناصر نبيه . ( رواه أحمد ، والترمذي وأبو داود ) .




الخدمات العلمية