الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
4866 - وعن أبي ذر - رضي الله عنه : دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث بطوله إلى أن قال : قلت : يا رسول الله أوصني . قال : " أوصيك بتقوى الله ، فإنه أزين لأمرك كله " قلت : زدني . قال : " عليك بتلاوة القرآن وذكر الله عز وجل ، فإنه ذكر لك في السماء ، ونور لك في الأرض " . قلت : زدني . قال : " عليك بطول الصمت ، فإنه مطردة للشيطان وعون لك على أمر دينك " قلت : زدني . قال إياك وكثرة الضحك ، فإنه يميت القلب ويذهب بنور الوجه " قلت : زدني . قال : " قل الحق وإن كان مرا " . قلت : زدني . قال : " لا تخف في الله لومة لائم " . قلت : زدني . قال : " ليحجزك عن الناس ما تعلم من نفسك " .

التالي السابق


4866 - ( وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال : دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ) أي : أبو ذر أو راوية ( الحديث بطوله ) : قال الطيبي : ولعله أراد مثل ما ذكر في حديث أنس التالي لهذا الحديث ، وفيه أنه لا دلالة على هذا ، مع أنه لو كان هو المراد لجمع بينهما في حديث واحد ، ثم رأيت الحديث في الجامع الصغير وفيه طول ، لكن في أثنائه وأواخره على ما سنورده . ( إلى أن قال ) أي : أبو ذر ( قلت : يا رسول الله أوصني قال : أوصيك بتقوى الله ) : وهو وصية الله للأولين والآخرين ، كما قال تعالى : ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله ، ( فإنه ) أي : الاتقاء أو ما ذكر من التقوى ( أزين ) أي : غاية من الزين ونهاية من الحسن ( لأمرك ) أي : لأمور دينك الاعتقادي والقولي والعملي ، بل ولأمور دنياك التي هي معاشك المقتضية لحسن معادك ( كله ) ; لأن التقوى بجميع مراتبها من ترك الشرك الجلي والخفي ، واجتناب الكبائر والصغائر ، والاحتراز عن الشبهات والتورع في المباحات ، والتنزه عن الشهوات ، والتخلي عن خطور ما سوى الله بالبال من شيم أرباب الكمال في الأحوال .

قال الطيبي : نسب الزينة إلى التقوى ، كما نسب إليه تعالى اللباس في قوله : ولباس التقوى ذلك خير ، بعد قوله : خذوا زينتكم عند كل مسجد ، فكما أن السماء مزينة بزينة الكواكب ، كذلك قلوب العارفين مزينة بالمعارف والتقوى . قال تعالى : فإنها من تقوى القلوب . اهـ . وفيه أنه غير مذكور بعد قوله : خذوا زينتكم ، بل قبله بعد قوله : يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا . ( قلت : زدني ) أي : في الوصية بالعمل الصالح ( قال : عليك بتلاوة القرآن ) أي : فإنها مجلبة للتقوى ومورثة للدرجات العلا ( وذكر الله عز وجل ) ، تعميم وتتميم ( فإنه ) أي : ما ذكر لك من التلاوة والذكر ( ذكر لك في السماء ، ونور لك في الأرض ) ، وهو يحتمل أن يكون باعتبار كل واحد ، وأن يكون بطريق اللف والنشر المرتب ، فإن ما بينهما من الفرق كما بين السماء والأرض على ما أشار إليه - صلى الله عليه وسلم - بقوله : " فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه " . ويمكن أن يكون ضميرا ، فإنه راجع إلى أقرب مذكور ، وهو الذكر فتعرف مرتبة التلاوة بالأولى ، على أن التلاوة مناجاة مع الرب سبحانه وتعالى . ( قلت : زدني ) أي : في الوصية بما يعين على ما ذكرت ( قال ) : وفي نسخة فقال ( عليك بطول الصمت ) أي : بدوامه فإنه مطردة للشيطان ) أي : لرئيسهم أو لجنسهم ويؤيده ما في نسخة : للشياطين ( وعون ) أي : معين ( لك على أمر دينك ) أي : استقامته

[ ص: 3053 ] قلت : زدني . قال : " إياك وكثرة الضحك ، فإنه ( أي : إكثاره وقيل ما ذكر من كثرة الضحك أو الضحك الكثير ( يميت القلب ) : وفي نسخة : القلوب ، أي : يورث قساوة القلب وهي مفضية إلى الغفلة ، وليس موت القلب إلا الغفلة عن الذكر ( ويذهب بنور الوجه ) أي : بهائه وحسنه في قوله سبحانه : سيماهم في وجوههم من أثر السجود . ( قلت : زدني قال : قل الحق وإن كان ) أي : وإن كان قول الحق على النفس أو عند أهل الباطل المتلهين بالحلويات النفسانية ( مرا ) أي : صعب المذاق وشديد المشاق وأنشد :

لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا



قال الطيبي : شبه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في من يأباهما بالصبر ، فإنه مر المذاق لكن عاقبته محمودة . ( قلت : زدني قال : لا تخف في الله ) : أي في حقه وطريق عبادته ( لومة لائم ) أي : ملامة أحد ، وفيه قطع تعلقه عن الخلق بالكلية فيما يأتي ويذر ، وثباته على الحق من غير نظر إلى مذمة الناس ومدحهم . قال تعالى : وتبتل إليه تبتيلا ، وقال الطيبي أي : كن صلبا في دينك إذا شرعت في إنكار منكر أو أمر بمعروف ، امض فيه كالمسامير المحماة لا يرعك قول قائل ولا اعتراض معترض . اهـ . ولا يخفى أن هذا المعنى فهم من قوله : قل الحق ولو كان مرا ، والحمل على التأسيس أولى من التأكيد . ( قلت : زدني . قال : ليحجزك ) : بكسر اللام وفتح الياء وسكون الحاء المهملة وضم الجيم وسكون الزاي ، أي : ليمنعك ( عن الناس ) أي : عيوبهم ( ما تعلم من نفسك ) أي : من عيوبها ، كما ورد عن أنس أخرجه الديلمي : طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس . قال ميرك : حديث المتن رواه أحمد والطبراني وابن حبان والحاكم واللفظ له ، وقال : صحيح الإسناد .

وفي الجامع الصغير : روى عبد بن حميد في تفسيره ، والطبراني في الكبير ، عن أبي ذر مرفوعا : " أوصيك بتقوى الله تعالى ، فإنه رأس الأمر كله ، عليك بتلاوة القرآن وذكر الله ، فإنه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض ، عليك بطول الصمت إلا من خير ، فإنه مطردة للشيطان عنك وعون لك على أمر دينك ، إياك وكثرة الضحك ، فإنه يميت القلب ويذهب بنور الوجه ، عليك بالجهاد ، فإنه رهبانية أمتي ، أحب المساكين وجالسهم ، انظر إلى من تحتك ولا تنظر إلى من فوقك ، فإنه أجدر أن لا تزدري نعمة الله عندك ، صل قرابتك وإن قطعوك ، قل الحق وإن كان مرا ، لا تخف في الله لومة لائم ، ليحجزك عن الناس ما تعلم من نفسك ، ولا تجد عليهم فيما تأتي ، وكفى بالمرء عيبا أن يكون فيه ثلاث خصال : أن يعرف من الناس ما يجهل من نفسه ، ويستحيي لهم مما هو فيه ، ويؤذي جليسه . يا أبا ذر لا عقل كالتدبير ولا ورع كالكف ولا حسب كحسن الخلق " .




الخدمات العلمية