الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
4889 - وعنه ، أن رجلا من أهل البادية كان اسمه زاهر بن حرام ، وكان يهدي للنبي - صلى الله عليه وسلم - من البادية ، فيجهزه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يخرج ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " إن زاهرا باديتنا ونحن حاضروه " . وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحبه ، وكان دميما ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما وهو يبيع متاعه ، فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره . قال : أرسلني ، من هذا ؟ فالتفت فعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل لا يألو ما ألزق ظهره بصدر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين عرفه ، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من يشتري العبد ؟ " فقال : يا رسول الله إذا والله تجدني كاسدا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " لكن عند الله لست بكاسد " رواه في " شرح السنة " .

التالي السابق


4889 - ( وعنه ) أي : عن أنس - رضي الله عنه - ( أن رجلا من أهل البادية ) : في الاستيعاب أنه كان حجازيا يسكن البادية ، وقال ابن حجر : أشجعي شهد بدرا . ( كان اسمه زاهر بن حرام ) أي : ضد حلال ، و لم يذكره المؤلف في أسمائه ( وكان يهدي ) : بضم الياء وكسر الدال ( للنبي - صلى الله عليه وسلم - ) أي : لأجله أو إليه وفي الشمائل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - هدية ( من البادية ) أي : حاصلة مما يوجد في البادية من الثمار والنبات والرياحين والأدوية ونحوها . ( فيجهزه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) ، بتشديد الهاء ، وفي نسخة بالتخفيف على ما في الشمائل ، أي : يعد له ويهيئ له أسبابه ، ويعوضه ما يحتاج إليه في البادية من أمتعة البلدان ( إذا أراد ) أي : زاهر ( أن يخرج ) أي : من المدينة إلى البادية ( فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : إن زاهرا باديتنا ) أي : ساكن باديتنا أو صاحبها أو أهلها ، وفي بعض نسخ الشمائل : بادينا من غير تاء ، والبادي المقيم بالبادية ، ومنه قوله تعالى : سواء العاكف فيه والبادي ، وهو في المعنى أظهر من الأول ( ونحن حاضروه ) : من الحضور ، وهو الإقامة في المدن والقرى . قال الطيبي : معناه أنا نستفيد منه ما يستفيد الرجل من باديته من أنواع النباتات ، ونحن نعد له ما يحتاج إليه من البلد . اهـ . وصار المعنى كأنه باديته ، وقيل : تاؤه للمبالغة ، وقيل : من إطلاق اسم المحل على الحال . ( وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحبه ) أي : حبا شديدا ( وكان ) : مع حسن سيرته ( رجلا دميما ) ، بالدال المهملة ، أي : قبيح المنظر كريه الصورة ( فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ) : بالرفع ، أي : فجاءه أو مر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ( يوما وهو ) أي : زاهر ( يبيع متاعه ) أي : في سوق أو فضاء ( فاحتضنه ) : وفي الشمائل بالواو ، أي : أخذه من حضنه وهو ما دون الإبط إلى الكشح ( من خلفه ) أي : من جهة ورائه ، وحاصله أنه عانقه من خلفه بأن أدخل يديه تحت إبطي زاهر ، وأخذ عينيه بيديه لئلا يعرفه ، وقيل : معناه أنه أخذه من عقبه من غير أخذ عينيه ذكره النووي . ( وهو لا يبصر ) : جملة حالية ، وفي الشمائل ولا يبصر ، وفي نسخة : ولا يبصره ( فقال : أرسلني ) أي : أطلقني ( من هذا ؟ ) أي : المعانق ، وفي الشمائل من هذا أرسلني

[ ص: 3065 ] ( فالتفت ) أي : زاهر ، فرآه بطرف عينه ( فعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل ) أي : شرع وطفق ( لا يألو ) : بسكون الهمز ويبدل وضم اللام ، أي : لا يقصر ( ما ألزق ظهره ) : وفي الشمائل ما ألصق بالصاد ، وهو بمعناه ، وما مصدرية منصوبة المحل على نزع الخافض ، أي : في إلزاق ظهره ( بصدر النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أي : تبركا ( حين عرفه ) : قيل : ذكره ثانيا اهتماما بشأنه وتنبيها على أن منشأ هذا الإلزاق ليس إلا معرفته ( وجعل ) ، بالواو ، وفي الشمائل فجعل ( النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : من يشتري العبد ؟ ) : وفي بعض نسخ الشمائل : هذا العبد ، ووجه تسميته عبدا ظاهر ، فإنه عبد الله ، ووجه الاستفهام على الاشتراء الذي يطلق لغة على مقابلة الشيء بالشيء تارة ، وعلى الاستبدال أخرى ، أنه أراد من يقابل هذا العبد بالإكرام ، أو من يستبدله مني بأن يأتيني بمثله ، ويمكن أن يكون من قبيل التجريد ، والمعنى من يأخذ هذا العبد ( فقال : يا رسول الله إذا ) : بالتنوين جواب وجزاء ، أي : إن بعتني أو عرضتني للبيع أو الأخذ إذا ( والله تجدني كاسدا ) أي : رخيصا أو غير مرغوب فيه ، وفي بعض نسخ الشمائل : إذا تجدني والله كاسدا ، بتأخير كلمة القسم عن الفعل ، أي : متاعا كاسدا لما فيه من الدمامة ، وتجد بالرفع في أكثر النسخ ، وفي بعضها بالنصب وهو ظاهر ، فإنه نحو : إذا والله نرميهم بحرب

ولعل وجه الرفع هو أن يراد بالفعل معنى الحال دون الاستقبال . قال ميرك : وفي بعض نسخ الشمائل تجدوني بلفظ الجمع ، ويحتاج إلى تكلف . قلت : صيغة الجمع قد تأتي للتعظيم ، فيكون الضمير له أو له ولأصحابه ( فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : لكن عند الله لست بكاسد ) : تقديم الظرف على متعلقه وعامله للاهتمام والاختصاص ، وفي الشمائل : أو قال : أنت عند الله غال ، والشك من الراوي ، ولا يبعد أن يكون " أو " بمعنى " بل " ، وفي نسخة : لكن عند الله غال ، وفيه زيادة منقبة لا تخفى . ( رواه ) أي : صاحب المصابيح ( في شرح السنة ) أي : بإسناده ، وكذا الترمذي في الشمائل ، وابن حبان وصححه . هذا ونظير هذا الحديث ما روى أبو يعلى أن رجلا كان يهدي إليه - صلى الله عليه وسلم - العكة من السمن أو العسل ، فإذا طولب بالثمن جاء بصاحبه فيقول للنبي - صلى الله عليه وسلم : أعطه متاعه ، أي : ثمنه ، فما يزيده على أن يتبسم ويأمر به فيعطى . وفي رواية : أنه كان لا يدخل المدينة طرفة إلا اشترى ، ثم جاء بها ، فقال : يا رسول الله هذا هدية لك ، فإذا طالبه صاحبه بثمنه جاء به فقال : أعط هذا الثمن ، فيقول : ألم تهده لي ؟ فيقول : ليس عندي ، فيضحك ويأمر لصاحبه بثمنه . قلت : فكأنه - رضي الله عنه - من كمال محبته للنبي - صلى الله عليه وسلم ، كلما رأى طرفة أعجبت نفسه اشتراها وآثره - صلى الله عليه وسلم - بها وأهداها إليه على نية أداء ثمنها إذا حصل لديه ، فلما عجز وصار كالمكاتب ، رجع إلى مولاه وأبدى له صنيع ما أولاه ، فإن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ، فترجع المطالبة إلى سيده ، فلعله هذا حق ممزوج بمزاج صدق ، والله أعلم .




الخدمات العلمية