الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        معلومات الكتاب

                                        إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

                                        ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

                                        صفحة جزء
                                        121 - الحديث الثاني : عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : { لقيني كعب بن عجرة فقال ألا أهدي لك هدية ؟ أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج علينا ، فقلنا : يا رسول الله ، قد علمنا الله كيف نسلم عليك : فكيف نصلي عليك ؟ فقال : قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد } .

                                        التالي السابق


                                        الكلام عليه من وجوه :

                                        الأول : " كعب بن عجرة " من بني سالم بن عوف . وقيل : من بني الحارث من قضاعة . شهد بيعة الرضوان . ومات سنة اثنتين وخمسين بالمدينة فيما قيل . روى له الجماعة كلهم .

                                        الثاني : صيغة الأمر في قوله " قولوا " ظاهرة في الوجوب . وقد اتفقوا على وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم . فقيل : تجب في العمر مرة . وهو الأكثر . وقيل : تجب في كل صلاة في التشهد الأخير . وهو مذهب الشافعي وقيل إنه لم يقله أحد قبله . وتابعه إسحاق . وقيل : تجب كلما ذكر . واختاره الطحاوي من الحنفية ، والحليمي من الشافعية . وليس في هذا الحديث تنصيص على أن هذا الأمر [ ص: 311 ] مخصوص بالصلاة . وقد كثر الاستدلال على وجوبها في الصلاة بين المتفقهة بأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واجبة بالإجماع . ولا تجب في غير الصلاة بالإجماع . فتعين أن تجب في الصلاة . وهو ضعيف جدا . لأن قوله " لا تجب في غير الصلاة بالإجماع " إن أراد به : لا تجب في غير الصلاة عينا ، فهو صحيح . لكنه لا يلزم منه : أن تجب في الصلاة عينا ، لجواز أن يكون الواجب مطلق الصلاة . فلا يجب واحد من المعينين - أعني خارج الصلاة وداخل الصلاة وإن أراد ما هو أعم من ذلك وهو الوجوب المطلق فممنوع .



                                        الثالث : في وجوب الصلاة على الآل وجهان عند أصحاب الشافعي . وقد يتمسك من قال بالوجوب بلفظ الأمر .

                                        الرابع : اختلفوا في " الآل " فاختار الشافعي : أنهم بنو هاشم وبنو المطلب . وقال غيره : أهل دينه عليه السلام . قال الله تعالى { أدخلوا آل فرعون أشد العذاب }

                                        الخامس : اشتهر بين المتأخرين سؤال . وهو : أن المشبه دون المشبه به . فكيف يطلب صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تشبها بالصلاة على إبراهيم ؟ والذي يقال فيه وجوه :

                                        أحدها : أنه تشبيه لأصل الصلاة بأصل الصلاة ، لا القدر بالقدر . وهذا كما اختاروا في قوله تعالى { كتب عليكم الصيام ، كما كتب على الذين من قبلكم } أن المراد : أصل الصيام ، لا عينه ووقته . وليس هذا بالقوي .

                                        الثاني . أن التشبيه وقع في الصلاة على الآل ، لا على النبي صلى الله عليه وسلم فكأن قوله " اللهم صل على محمد " مقطوعا عن التشبيه . وقوله " وعلى آل محمد " متصل بقوله " كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم " وفي هذا من السؤال : أن غير الأنبياء لا يمكن أن يساويهم . فكيف يطلب وقوع ما لا يمكن وقوعه ؟ وههنا يمكن أن يرد إلى أصل الصلاة ، ولا يرد ما يرد على تقدير أن يكون المشبه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وآله .

                                        الثالث : أن المشبه : الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وآله بالصلاة على إبراهيم وآله ، أي المجموع بالمجموع . ومعظم الأنبياء عليهم السلام هم آل إبراهيم فإذا تقابلت الجملة بالجملة ، وتعذر أن يكون لآل الرسول عليه السلام مثل [ ص: 312 ] ما لآل إبراهيم - الذين هم الأنبياء - كان ما توفر من ذلك حاصلا للرسول صلى الله عليه وسلم فيكون زائدا على الحاصل لإبراهيم صلى الله عليه وسلم . والذي يحصل من ذلك هو آثار الرحمة والرضوان . فمن كانت في حقه أكثر كان أفضل .

                                        الرابع أن هذه الصلاة الأمر بها للتكرار بالنسبة إلى كل صلاة في حق كل مصل . فإذا اقتضت في كل مصل حصول صلاة مساوية للصلاة على إبراهيم عليه السلام كان الحاصل للنبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى مجموع الصلاة أضعافا مضاعفة ، لا ينتهي إليها العد والإحصاء . فإن قلت : التشبيه حاصل بالنسبة إلى أصل هذه الصلاة ، والفرد منها . فالإشكال وارد . قلت : متى يرد الإشكال : إذا كان الأمر للتكرار ، أو إذا لم يكن ؟ الأول : ممنوع .

                                        والثاني : مسلم ، ولكن هذا الأمر للتكرار بالاتفاق . وإذا كان للتكرار ، فالمطلوب من المجموع : حصول مقدار لا يحصى من الصلاة بالنسبة إلى المقدار الحاصل لإبراهيم عليه السلام .

                                        الخامس : لا يلزم من مجرد السؤال لصلاة مساوية للصلاة على إبراهيم عليه السلام المساواة ، أو عدم الرجحان عند السؤال . وإنما يلزم ذلك لو لم يكن الثابت للرسول صلى الله عليه وسلم صلاة مساوية لصلاة إبراهيم ، أو زائدة عليها . أما إذا كان كذلك فالمسئول من الصلاة إذا انضم إلى الثابت المتكرر للرسول صلى الله عليه وسلم ، كان المجموع زائدا في المقدار على القدر المسئول . وصار هذا في المثال كما إذا ملك إنسان أربعة آلاف درهم ، وملك آخر ألفين . فسألنا أن نعطي صاحب الأربعة آلاف مثل ما لذلك الآخر ، وهو الألفان . فإذا حصل ذلك انضمت الألفان إلى أربعة آلاف . فالمجموع ستة آلاف . وهي زائدة على المسئول الذي هو ألفان .

                                        السادس من الكلام على الحديث : قوله " إنك حميد " بمعنى محمود ، ورد بصيغة المبالغة ، أي مستحق لأنواع المحامد . و " مجيد " مبالغة من ماجد والمجد الشرف . فيكون ذلك كالتعليل لاستحقاق الحمد بجميع المحامد . ويحتمل أن يكون " حميد " مبالغة من حامد . ويكون ذلك كالتعليل للصلاة المطلوبة . فإن الحمد والشكر متقاربان فحميد قريب من معنى شكور . وذلك [ ص: 313 ] مناسب لزيادة الأفضال والإعطاء لما يراد من الأمور العظام . وذلك المجد والشرف مناسبته لهذا المعنى ظاهرة . و " البركة " الزيادة والنماء من الخير . والله أعلم . .




                                        الخدمات العلمية