الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        149 - الحديث الثالث : عن عائشة رضي الله عنها { : أنها قالت خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس . فأطال القيام ، ثم ركع ، فأطال الركوع ، ثم قام ، فأطال القيام - وهو دون القيام الأول - ثم ركع ، فأطال الركوع - وهو دون الركوع الأول - ثم سجد ، فأطال السجود ، ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ما فعل في الركعة الأولى ، ثم انصرف ، وقد تجلت الشمس ، فخطب الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا رأيتم ذلك فادعوا [ ص: 353 ] الله وكبروا ، وصلوا وتصدقوا ، ثم قال : يا أمة محمد ، والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده ، أو تزني أمته ، يا أمة محمد ، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا . وفي لفظ فاستكمل أربع ركعات وأربع سجدات } .

                                        التالي السابق


                                        أحدها : ما يتعلق بلفظ " الخسوف " بالنسبة إلى الشمس ، وإقامة هذه الصلاة في جماعة . وقد تقدم .

                                        الثاني : قولها " فأطال القيام " لم نجد فيه حدا . وقد ذكروا أنه نحوا من سورة البقرة لحديث آخر ورد فيه . وقولها " فأطال الركوع " لم نجد فيه حدا . وذكر أصحاب الشافعي : أنه نحوا من مائة آية . واختار غيرهم عدم التحديد إلا بما لا يضر بمن خلفه . وقولها " ثم قام فأطال القيام ، وهو دون القيام الأول " يقتضي أن سنة هذه الصلاة : تقصير القيام الثاني عن الأول . وقد تقدم قول من استحب ذلك في جميع الصلوات . وكأن السبب فيه : أن النشاط في الركعة الأولى يكون أكثر . فيناسب التخفيف في الثانية ، حذرا من الملال . والفقهاء اتفقوا على القراءة في هذا القيام الثاني - أعني الذين قالوا بهذه الكيفية في صلاة الكسوف - وجمهورهم على قراءة الفاتحة فيه ، إلا بعض أصحاب مالك . كأنه رآها ركعة واحدة ، زيد فيها ركوع . والركعة الواحدة لا تثنى الفاتحة فيها . وهذا يمكن أن يؤخذ من الحديث ، على ما سننبه عليه في مواضعه .

                                        الثالث : قولها " ثم سجد فأطال السجود " يقتضي طول السجود في هذه الصلاة . وظاهر مذهب الشافعي : أنه لا يطول السجود فيها . وذكر الشيخ أبو [ ص: 354 ] إسحاق الشيرازي عن أبي العباس بن سريج : أنه يطيل السجود ، كما يطيل الركوع . ثم قال : وليس بشيء . لأن الشافعي لم يذكر ذلك ، ولا نقل ذلك في خبر . ولو كان قد أطال لنقل ، كما في القراءة والركوع . قلنا : بل نقل ذلك في أخبار :

                                        منها : حديث عائشة رضي الله عنها هذا . وفي حديث آخر عنها : أنها قالت " ما سجد سجودا أطول منه " وكذلك نقل تطويله في حديث أبي موسى ، وجابر بن عبد الله .

                                        الرابع قولها : " ثم فعل في الركعة الثانية مثلما فعل في الركعة الأولى " وقد حكت في الركعة الأولى : أن القيام الثاني دون القيام الأول . وأن الركوع الثاني دون الركوع الأول . ومقتضى هذا التشبيه : أن يكون القيام الثاني دون القيام الأول ، وأن الركوع الثاني دون الركوع الأول . ولكن هل يراد بالقيام الأول : الأول من الركعة الأولى ، أو الأول من الركعة الثانية ؟ وكذلك في الركوع إذا قلنا : دون الركوع الأول ، هل يراد به : الأول من الركعة الأولى ، أو الأول من الركعة الثانية ؟ تكلموا فيه . وقد رجح أن المراد بالقيام الأول . الأول من الركعة الثانية والركوع الأول : الأول من الثانية أيضا . فيكون كل قيام وركوع دون الذي يليه .

                                        الخامس : قولها " فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه " ظاهر في الدلالة على أن لصلاة الكسوف خطبة . ولم ير ذلك مالك ولا أبو حنيفة . قال بعض أتباع مالك : ولا خطبة ، ولكن يستقبلهم ويذكرهم . وهذا خلاف الظاهر من الحديث ، لا سيما بعد أن ثبت أنه ابتدأ بما تبتدأ " به الخطبة من حمد الله والثناء عليه . والذي ذكر من العذر عن مخالفة هذا الظاهر : ضعيف ، مثل قولهم : إن المقصود إنما كان الإخبار " أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته " للرد على من قال ذلك في موت إبراهيم . والإخبار بما رآه من الجنة والنار ، وذلك يخصه . وإنما استضعفناه لأن الخطبة لا تنحصر مقاصدها في شيء [ ص: 355 ] معين ، بعد الإتيان بما هو المطلوب منها ، من الحمد والثناء والموعظة . وقد يكون بعض هذه الأمور داخلا في مقاصدها ، مثل ذكر الجنة والنار ، وكونهما من آيات الله . بل هو كذلك جزما .



                                        السادس : قوله { فإذا رأيتم فادعوا الله ، وكبروا وصلوا وتصدقوا } اختلف الفقهاء في وقت صلاة الكسوف . قيل : هو ما بعد حل النافلة إلى الزوال وهو ظاهر مذهب مالك ، أو أصحابه . وقيل : إلى ما بعد صلاة العصر . وهو في المذهب أيضا . وقيل : جميع النهار . وهو مذهب الشافعي . ويستدل بهذا الحديث . فإنه أمر بالصلاة إذا رأى ذلك . وهو عام في كل وقت . وفي الحديث دليل على استحباب الصدقة عند المخاوف ، لاستدفاع البلاء المحذور . .



                                        السابع : قوله { ما من أحد أغير من الله من أن يزني عبده أو تزني أمته } المنزهون لله تعالى عن سمات الحد ومشابهة المخلوقين بين رجلين : إما ساكت عن التأويل ، وإما مؤول ، على أن يراد شدة المنع والحماية من الشيء . لأن الغائر على الشيء مانع له ، وحام منه . فالمنع والحماية من لوازم الغيرة . فأطلق لفظ " الغيرة " عليهما من مجاز الملازمة ، أو على غير ذلك من الوجوه السائغة في لسان العرب ، والأمر في التأويل وعدمه في هذا : قريب عند من يسلم التنزيه . فإنه حكم شرعي أعني الجواز وعدمه . ويؤخذ كما تؤخذ سائر الأحكام إلا أن يدعي المدعي : أن هذا الحكم ثبت بالتواتر عن صاحب الشرع - أعني المنع من التأويل - ثبوتا قطعيا . فخصمه يقابله حينئذ بالمنع الصريح . وقد يتعدى بعض خصومه إلى التكذيب القبيح .



                                        الثامن : قوله { والله لو تعلمون ما أعلم } إلى آخره " فيه دليل على ترجيح مقتضى الخوف ، وترجيح التخويف في الموعظة على الإشاعة بالرخص لما في ذلك من التسبب إلى تسامح النفوس لما جبلت عليه من الإخلاد إلى الشهوات . وذلك مرض خطر . والطبيب الحاذق : يقابل العلة بضدها ، لا بما يزيدها .



                                        التاسع : قوله في لفظ { فاستكمل أربع ركعات وأربع سجدات } أطلق " الركعات " على عدد الركوع . وجاء في موضع آخر " في ركعتين " وهذا الذي أشرنا إليه : أنه متمسك من قال من أصحاب مالك : إنه لا يقرأ الفاتحة في الركوع الثاني ، من حيث إنه أطلق على الصلاة " ركعتين " والله أعلم . .




                                        الخدمات العلمية