الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        معلومات الكتاب

                                        إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

                                        ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

                                        صفحة جزء
                                        174 - الحديث الخامس : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال { بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه على الصدقة . فقيل : منع ابن جميل وخالد بن الوليد ، والعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ينقم ابن جميل ، إلا أن كان فقيرا : فأغناه الله ؟ وأما خالد : فإنكم تظلمون خالدا . وقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله . وأما العباس : فهي علي ومثلها . ثم قال : يا عمر ، أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه ؟ } .

                                        التالي السابق


                                        الحديث مشكل في مواضع منه ، والكلام عليه من وجوه :

                                        الأول : قوله { بعث عمر على الصدقة } الأظهر : أن المراد على الصدقة الواجبة . وذكر بعضهم : أن تكون التطوع ، احتمالا أو قولا . " وإنما كان الظاهر أنها الواجبة لأنها المعهودة . فتصرف الألف واللام إليها ، ولأن البعث إنما يكون على الصدقات المفروضة .

                                        [ ص: 384 ] والثاني : يقال : نقم ينقم - بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل ، وبالعكس بالكسر في الماضي والفتح في المستقبل - والحديث يقتضي : أنه لا عذر له في الترك . فإن " نقم " بمعنى أنكر ، وإذا لم يحصل له موجب للمنع ، إلا أن كان فقيرا ، فأغناه الله . فلا موجب للمنع . وهذا مما تقصد العرب في مثله النفي على سبيل المبالغة بالإثبات كما قال الشاعر :

                                        ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب

                                        لأنه إن لم يكن فيهم عيب إلا هذا - وهذا ليس بعيب فلا عيب فيهم ، فكذلك هنا إذا لم ينكر إلا كون الله أغناه بعد فقره ، فلم يكن منكرا أصلا .

                                        الثالث : " العتاد " ما أعد الرجل من السلاح والدواب وآلات الحرب . وقد وقع في هذه الرواية " أعتاده " وفي أخرى " أعتده " واختلف فيها . فقيل " أعتده " بالتاء : وقيل " أعبده " بالباء ثاني الحروف . وعلى هذا اختلفوا فالظاهر : أن " أعبده " جمع عبد . وهو الحيوان العاقل المملوك . وقيل : إنه جمع صفة من قولهم " فرس عبد " وهو الصلب . وقيل : المعد للركوب . وقيل : السريع الوثب . ورجح بعضهم هذا بأن العادة لم تجر بتحبيس العبيد في سبيل الله ، بخلاف الخيل .

                                        الرابع : فيه دليل على تحبيس المنقولات . واختلف الفقهاء في ذلك .

                                        الخامس : نشأ إشكال من كونه لم يؤمر بأخذ الزكاة منه ، وانتزاعها عند منعه . فقيل : في جوابه : يجوز أن يكون عليه السلام أجاز لخالد أن يحتسب ما حبسه من ذلك فيما يجب عليه من الزكاة . لأنه في . سبيل الله . حكاه القاضي قال : وهو حجة لمالك في جواز دفعها لصنف واحد . وهو قول كافة العلماء ، خلافا للشافعي في وجوب قسمتها على الأصناف الثمانية . قال : وعلى هذا يجوز إخراج القيم في الزكاة . وقد أدخل البخاري هذا الحديث في " باب أخذ العرض في الزكاة " فيدل : أنه ذهب إلى هذا التأويل . وأقول : هذا لا يزيل الإشكال . لأن ما حبس على جهة معينة تعين صرفه إليها ، واستحقه أهل تلك الجهة مضافا إلى جهة الحبس ، فإن كان قد طلب من خالد زكاة ما حبسه ، فكيف يمكن من ذلك مع تعين ما حبسه لمصرفه ؟ وإن كان قد [ ص: 385 ] طلب منه زكاة المال الذي لم يحبسه - من العين والحرث والماشية فكيف يحاسب بما وجب عليه في ذلك ، وقد تعين صرف ذلك المحبس إلى جهته ؟ . وأما الاستدلال بذلك على أن صرف الزكاة إلى صنف من الثمانية جائز ، وأن أخذ القيم جائز : فضعيف جدا . لأنه لو أمكن توجيه ما قيل في ذلك لكان الإجزاء في المسألتين مأخوذا على تقدير ذلك التأويل . وما ثبت على تقدير لا يلزم أن يكون واقعا إلا إذا ثبت وقوع ذلك التقدير . ولم يثبت ذلك بوجه ، ولم يبين قائل هذه المقالة إلا مجرد الجواز . والجواز لا يدل على الوقوع . إلا أن يريد القاضي : أنه حجة لمالك وأبي حنيفة على التقدير . فقريب ، إلا أنه يجب التنبيه ، لأنه لا يفيد الحكم في نفس الأمر . وأنا أقول : يحتمل أن يكون تحبيس خالد لأدراعه وأعتاده في سبيل الله : إرصاده إياه لذلك ، وعدم تصرفه بها في غير ذلك . وهذا النوع حبس ، وإن لم يكن تحبيسا . ولا يبعد أن يراد مثل ذلك بهذا اللفظ . ويكون قوله " إنكم تظلمون خالدا " مصروفا إلى قولهم " منع خالد " أي تظلمونه في نسبته إلى منع الواجب ، مع كونه صرف ماله في سبيل الله . ويكون المعنى : أنه لم يقصد منع الواجب ، ويحمل منعه على غير ذلك .

                                        السادس : أخذ بعضهم من هذا : وجوب زكاة التجارة . وأن خالدا طولب بأثمان الأربع والأعتد . قالوا : ولا زكاة في هذه الأشياء ، إلا أن تكون للتجارة . وقد استضعف هذا الاستدلال ، من حيث إنه استدلال بأمر محتمل ، غير متعين لما ادعى .

                                        السابع : من قال بأن هذه صدقة كانت تطوعا . ارتفع عنه هذا الإشكال . ويكون النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بما حبسه خالد على هذه الجهات عن أخذ شيء آخر من صدقة التطوع . ويكون من طلب منه شيئا آخر - مع ما حبسه من ماله وأعتده في سبيل الله - ظالما له في مجرى العادة ، وعلى سبيل التوسع في إطلاق اسم الظلم .

                                        الثامن : قوله عليه السلام { فهي علي ومثلها } فيه وجهان :

                                        أحدهما : أن يكون هذا اللفظ صيغة إنشاء لالتزام ما لزم العباس . ويرجحه قوله " إن عم الرجل صنو أبيه " فإن في هذه اللفظة إشعارا بما ذكرناه ، فإن كونه صنو الأب : يناسب [ ص: 386 ] تحمل ما عليه .

                                        الثاني : أن يكون إخبارا عن أمر وقع ومضى . وهو تسلف صدقة عامين من العباس وقد روي في ذلك حديث منصوص " إنا تعجلنا منه صدقة عامين " يجمع النخلتين أصل واحد .




                                        الخدمات العلمية