الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        معلومات الكتاب

                                        إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

                                        ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

                                        صفحة جزء
                                        12 - الحديث الثاني : عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا أتيتم الغائط ، فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ، ولا تستدبروها ، ولكن شرقوا أو غربوا } .

                                        قال أبو أيوب : " فقدمنا الشام ، فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة ، فننحرف عنها ، ونستغفر الله عز وجل " .

                                        التالي السابق


                                        الغائط المطمئن من الأرض ينتابونه للحاجة . فكنوا به عن نفس الحدث ، كراهية لذكره بخاص اسمه " والمراحيض " جمع المرحاض . وهو المغتسل . وهو أيضا كناية عن موضع التخلي .

                                        الكلام عليه من وجوه :

                                        أحدها " أبو أيوب الأنصاري اسمه خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة نجاري ، شهد بدرا . ومات في زمن يزيد بن معاوية . وقال خليفة : مات بأرض الروم سنة خمسين . وذلك في زمن معاوية . وقيل : في سنة اثنتين وخمسين بالقسطنطينية .

                                        الثاني : قوله " إذا أتيتم الخلاء " استعمل " الخلاء " في قضاء الحاجة كيف كان . ; لأن هذا الحكم عام في جميع صور قضاء الحاجة .

                                        وهو إشارة إلى ما قدمناه من استعمال هذه اللفظة مجازا .

                                        الثالث : الحديث دليل على المنع من استقبال القبلة واستدبارها . والفقهاء اختلفوا في هذا الحكم على مذاهب فمنهم من منع ذلك مطلقا ، على مقتضى [ ص: 98 ] ظاهر هذا الحديث .

                                        ومنهم من أجازه مطلقا ، ورأى أن هذا الحديث منسوخ وزعم أن ناسخه حديث مجاهد عن جابر قال { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببول . فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها } وممن نقل عنه الترخيص في ذلك مطلقا : عروة بن الزبير ، وربيعة بن عبد الرحمن . ومنهم من فرق بين الصحاري والبنيان فمنع في الصحاري ، وأجاز في البنيان ، بناء على أن ابن عمر روى الحديث الذي يأتي ذكره بعد هذا الحديث في البنيان .

                                        فجمع بين الأحاديث ، فحمل حديث أبي أيوب - وما في معناه - على الصحاري ، وحمل حديث ابن عمر على البنيان . وقد روى الحسن بن ذكوان عن مروان الأصفر قال " رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة ثم جلس يبول إليها . فقلت : أبا عبد الرحمن ، أليس قد نهي عن هذا ؟ فقال : بلى إنما نهي عن ذلك في الفضاء . فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس " أخرجه أبو داود .

                                        واعلم أن حمل حديث أبي أيوب على الصحاري مخالف لما حمله عليه أبو أيوب من العموم . فإنه قال " فأتينا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت قبل القبلة ، فننحرف عنها " فرأى النهي عاما .

                                        الرابع : اختلفوا في علة هذا النهي من حيث المعنى . والظاهر : أنه لإظهار الاحترام والتعظيم للقبلة . ; لأنه معنى مناسب ورد الحكم على وفقه ، فيكون علة له . وأقوى من هذا في الدلالة على هذا التعليل : ما روي من حديث سلمة بن وهرام عن سراقة بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا أتى أحدكم البراز . فليكرم قبلة الله عز وجل ، ولا يستقبل القبلة } وهذا ظاهر قوي في التعليل بما ذكرناه . ومنهم من علل بأمر آخر .

                                        فذكر عيسى بن أبي عيسى قال : قلت للشعبي - هو بفتح الشين المعجمة ، وسكون العين المهملة - عجبت لقول أبي هريرة ونافع عن ابن عمر قال : وما قالا ؟ قلت : قال أبو هريرة " لا تستقبلوا القبلة ولا [ ص: 99 ] تستدبروها " وقال نافع عن ابن عمر " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ذهب مذهبا مواجه القبلة " قال : أما قول أبي هريرة : ففي الصحراء ، إن لله خلقا من عباده يصلون في الصحراء ، فلا تستقبلوهم ، ولا تستدبروهم وأما بيوتكم هذه التي تتخذونها للنتن فإنه لا قبلة لها .

                                        وذكر الدارقطني : أن عيسى هذا ضعيف . وينبني على هذا الخلاف في التعليل اختلافهم فيما إذا كان في الصحراء ، فاستتر بشيء : هل يجوز الاستقبال والاستدبار أم لا ؟ فالتعليل باحترام القبلة : يقتضي المنع ، والتعليل برؤية المصلين : يقتضي الجواز .

                                        الخامس : قوله صلى الله عليه وسلم " إذا أتيتم الخلاء ، فلا تستقبلوا القبلة - الحديث " يقتضي أمرين :

                                        أحدهما : ممنوع منه .

                                        والثاني : علة لذلك المنع . وقد تكلمنا عن العلة . والكلام الآن على محل العلة .

                                        فالحديث دل على المنع من استقبالها لغائط أو بول ، وهذه الحالة تتضمن أمرين :

                                        أحدهما : خروج الخارج المستقذر .

                                        والثاني : كشف العورة ، فمن الناس من قال : المنع للخارج ، لمناسبته لتعظيم القبلة عنه .

                                        ومنهم من قال : المنع لكشف العورة . وينبني على هذا الخلاف : خلافهم في جواز الوطء مستقبل القبلة مع كشف العورة ، فمن علل بالخارج أباحه ، إذ لا خارج . ومن علل بالعورة منعه .

                                        السادس : " الغائط " في الأصل : هو المكان المطمئن من الأرض ، كانوا يقصدونه لقضاء الحاجة ، ثم استعمل في الخارج . وغلب هذا الاستعمال على الحقيقة الوضعية ، فصار حقيقة عرفية .

                                        والحديث يقتضي أن اسم " الغائط " لا ينطلق على البول ، لتفرقته بينهما . وقد تكلموا في أن قوله تعالى { أو جاء أحد منكم من الغائط } هل يتناول الريح مثلا ، أو البول أو لا ؟ بناء على أنه يخصص لفظ " الغائط " لما كانت العادة أن يقصد لأجله ، وهو الخارج من الدبر ، ولم يكونوا يقصدون الغائط للريح مثلا .

                                        أو يقال : إنه مستعمل فيما كان يقع عند قصدهم الغائط من الخارج من القبل أو الدبر كيف كان .

                                        والسابع : قوله " ولكن شرقوا أو غربوا " محمول على محل يكون التشريق والتغريب فيه مخالفا لاستقبال القبلة واستدبارها ، كالمدينة التي هي مسكن رسول [ ص: 100 ] الله صلى الله عليه وسلم وما في معناها من البلاد ، ولا يدخل تحته ما كانت القبلة فيه إلى المشرق أو المغرب .

                                        الثامن : قول أبي أيوب " فقدمنا الشام إلخ " فيه ما قدمناه ثمة من حمله له على العموم بالنسبة إلى البنيان والصحاري ، وفيه دليل على أن للعموم صيغة عند العرب وأهل الشرع ، على خلاف ما ذهب إليه بعض الأصوليين . وهذا - أعني استعمال صيغة العموم - فرد من الأفراد ، له نظائر لا تحصى ، وإنما نبهنا عليه على سبيل ضرب المثل ، فمن أراد أن يقف على ذلك فليتتبع نظائرها يجدها .

                                        التاسع : أولع بعض أهل العصر - وما يقرب منه - بأن قالوا : إن صيغة العموم إذا وردت على الذوات مثلا أو على الأفعال .

                                        كانت عامة في ذلك ، مطلقة في الزمان والمكان ، والأحوال والمتعلقات . ثم يقولون : المطلق يكفي في العمل به صورة واحدة . فلا يكون حجة فيما عداه . وأكثروا من هذا السؤال فيما لا يحصى من ألفاظ الكتاب والسنة . وصار ذلك ديدنا لهم في الجدال . وهذا عندنا باطل ، بل الواجب : أن ما دل على العموم في الذوات - مثلا - يكون دالا على ثبوت الحكم في كل ذات تناولها اللفظ . ولا تخرج عنها ذات إلا بدليل يخصه .

                                        فمن أخرج شيئا من تلك الذوات ، فقد خالف مقتضى العموم . نعم المطلق يكفي العمل به مرة ، كما قالوه . ونحن لا نقول بالعموم في هذه المواضع من حيث الإطلاق ، وإنما قلنا به من حيث المحافظة على ما تقتضيه صيغة العموم في كل ذات . فإن كان المطلق مما لا يقتضي العمل به مرة واحدة مخالفة لمقتضى صيغة العموم : اكتفينا في العمل به مرة واحدة .

                                        وإن كان العمل به مما يخالف مقتضى صيغة العموم . قلنا بالعموم محافظة على مقتضى صيغته ، لا من حيث إن المطلق يعم ، مثال ذلك : إذا قال : من دخل داري فأعطه درهما .

                                        فمقتضى الصيغة : العموم في كل ذات صدق عليها أنها داخلة . فإن قال قائل : هو مطلق في الأزمان ، فأعمل به في الذوات الداخلة الدار في أول النهار مثلا ، ولا أعمل به في غير ذلك الوقت ; لأنه مطلق في الزمان ، وقد عملت به مرة ، فلا يلزم أن أعمل به مرة أخرى ، لعدم عموم المطلق . [ ص: 101 ]

                                        قلنا له : لما دلت الصيغة على العموم في كل ذات دخلت الدار ، ومن جملتها : الذوات الداخلة في آخر النهار . فإذا أخرجت تلك الذوات فقد أخرجت ما دلت الصيغة على دخوله .

                                        وهي كل ذات . وهذا الحديث أحد ما يستدل به على ما قلنا . فإن أبا أيوب من أهل اللسان والشرع ، وقد استعمل قوله " لا تستقبلوا ولا تستدبروا " عاما في الأماكن . وهو مطلق فيها . وعلى ما قال هؤلاء المتأخرون : لا يلزم منه العموم ، وعلى ما قلناه : يعم ; لأنه إذا أخرج عنه بعض الأماكن خالف صيغة العموم في النهي عن الاستقبال والاستدبار .

                                        العاشر : قوله " ونستغفر الله " قيل : يراد به ونستغفر الله لباني الكنف على هذه الصورة الممنوعة عنده . وإنما حملهم على هذا التأويل : أنه إذا انحرف عنها لم يفعل ممنوعا . فلا يحتاج إلى الاستغفار . والأقرب : أنه استغفار لنفسه . ولعل ذلك ; لأنه استقبل واستدبر بسبب موافقته لمقتضى البناء غلطا أو سهوا . فيتذكر فينحرف ، ويستغفر الله .

                                        فإن قلت : فالغالط والساهي لم يفعلا إثما . فلا حاجة به إلى الاستغفار . قلت : أهل الورع والمناصب العلية في التقوى قد يفعلون مثل هذا ، بناء على نسبتهم التقصير إلى أنفسهم في [ عدم ] التحفظ ابتداء . والله أعلم .




                                        الخدمات العلمية