الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        معلومات الكتاب

                                        إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

                                        ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

                                        صفحة جزء
                                        240 - الحديث الأول : عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال { أهل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحج وليس مع أحد منهم هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة ، وقدم علي رضي الله عنه من اليمن . فقال : أهللت بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه : أن يجعلوها عمرة ، فيطوفوا ثم يقصروا ويحلوا ، إلا من كان معه الهدي فقالوا : ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر ؟ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ، ولولا أن معي الهدي لأحللت . وحاضت عائشة . فنسكت المناسك كلها ، غير أنها لم تطف بالبيت . فلما طهرت وطافت بالبيت قالت : يا رسول الله ، ينطلقون بحج وعمرة ، وأنطلق بحج فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر : أن يخرج معها إلى التنعيم فاعتمرت بعد الحج } .

                                        التالي السابق


                                        [ ص: 470 ] قوله " أهل النبي صلى الله عليه وسلم " الإهلال : أصله رفع الصوت . ثم استعمل في التلبية استعمالا شائعا . ويعبر به عن الإحرام .

                                        وقوله " بالحج " ظاهره يدل على الإفراد . وهو رواية جابر .

                                        وقوله " وليس مع أحد منهم هدي غير النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة " كالمقدمة لما أمروا به من فسخ الحج إلى العمرة ، إذا لم يكن هدي .

                                        وقوله " أهللت بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم " قيل : فيه دليل على جواز تعليق الإحرام بإحرام الغير وانعقاد إحرام المعلق بما أحرم به الغير . ومن الناس من عدى هذا إلى صور أخرى أجاز فيها التعليق ، ومنعه غيره ومن أبى ذلك يقول : الحج مخصوص بأحكام ليست في غيره . ويجعل محل النص منها .

                                        وقوله " فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يجعلوها عمرة " فيه عموم وهو مخصوص بأصحابه الذين لم يكن معهم هدي ، وقد بين ذلك في حديث آخر . وفسخ الحج إلى العمرة : كان جائزا بهذا الحديث . وقيل : إن علته حسم مادة الجاهلية في اعتقادها أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور .



                                        واختلف الناس فيما بعد هذه الواقعة : هل يجوز فسخ الحج إلى العمرة ، كما في هذه الواقعة أم لا ؟ فذهب الظاهرية إلى جوازه . وذهب أكثر الفقهاء المشهورين إلى منعه وقيل : إن هذا كان مخصوصا بالصحابة . وفي هذا حديث عن أبي ذر رضي الله عنه وعن الحارث بن بلال عن أبيه أيضا . أعني في كونه مخصوصا .

                                        وقوله " فيطوفوا ثم يقصروا " يحتمل قوله " فيطوفوا " وجهين :

                                        أحدهما : أن يراد به الطواف بالبيت على ما هو المشهور . ويكون في الكلام حذف ، أي يطوفوا ويسعوا . فإن العمرة لا بد فيها من السعي . ويحتمل أن يكون استعمل الطواف في الطوف بالبيت ، وفي السعي أيضا فإنه قد يسمى طوافا ، قال الله تعالى { إن الصفا والمروة من شعائر الله ، فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح [ ص: 471 ] عليه أن يطوف بهما } .



                                        وقوله " فقالوا : ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر " فيه دليل على استعمال المبالغة في الكلام . فإنهم إذا حلوا من العمرة وواقعوا النساء ، كان إحرامهم للحج قريبا من زمن المواقعة ، والإنزال . فحصلت المبالغة في قرب الزمان بأن قيل " وذكر أحدنا يقطر " وكأنه إشارة إلى اعتبار المعنى في الحج . وهو الشعث وعدم الترفه . فإذا طال الزمن في الإحرام حصل هذا المقصود . وإذا قرب زمن الإحرام من زمن التحلل : ضعف هذا المقصود ، أو عدم وكأنهم استنكروا زوال هذا المقصود أو ضعفه ، لقرب إحرامهم من تحللهم



                                        وقوله صلى الله عليه وسلم { لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت } فيه أمران :

                                        أحدهما : جواز استعمال لفظة " لو " في بعض المواضع ، وإن كان قد ورد فيها ما يقتضي خلاف ذلك . وهو { قوله صلى الله عليه وسلم فإن لو تفتح عمل الشيطان } وقد قيل في الجمع بينهما : إن كراهتها في استعمالها في التلهف على أمور الدنيا ، إما طلبا كما يقال : لو فعلت كذا حصل لي كذا . وإما هربا كقوله : لو كان كذا لما وقع لي كذا وكذا . لما في ذلك من صورة عدم التوكل في نسبة الأفعال إلى القضاء والقدر وأما إذا استعملت في تمني القربات - كما جاء في هذا الحديث - فلا كراهة هذا أو ما يقرب منه .

                                        الثاني : استدل به على أن التمتع أفضل . ووجه الدليل : أن النبي صلى الله عليه وسلم تمنى ما يكون به متمتعا لو وقع . وإنما يتمنى الأفضل مما حصل . ويجاب عنه بأن الشيء قد يكون أفضل بالنظر إلى ذاته ، بالنسبة إلى شيء آخر ، وبالنظر إلى ذات ذلك الشيء الآخر . ثم يقترن بالمفضول في صورة خاصة ما يقتضي ترجيحه ولا يدل ذلك على أفضليته من حيث هو هو . وههنا كذلك . فإن هذا التلهف اقترن به قصد موافقة الصحابة في فسخ الحج إلى العمرة ، لما شق عليهم ذلك . وهذا أمر زائد على مجرد التمتع . وقد يكون التمتع مع هذه الزيادة أفضل . ولا يلزم من ذلك : أن يكون التمتع بمجرده أفضل .

                                        وقوله صلى الله عليه وسلم " ولولا أن معي الهدي لأحللت " معلل بقوله تعالى { ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله } وفسخ الحج إلى العمرة : يقتضي التحلل [ ص: 472 ] بالحلق عند الفراغ من العمرة . ولو تحلل بالحلق عند الفراغ من العمرة : لحصل الحلق قبل بلوغ الهدي محله . وقد يؤخذ من هذا - والله أعلم - التمسك بالقياس . فإنه يقتضي تسوية التقصير بالحلق في منعه قبل بلوغ الهدي محله ، مع أن النص لم يرد إلا في الحلق . فلو وجب الاقتصار على النص ، لم يمتنع فسخ الحج إلى العمرة لأجل هذه العلة . فإنه حينئذ كان يمكن التحلل من العمرة بالتقصير . ويبقى النص معمولا به في منع الحلق ، حتى يبلغ الهدي محله فحيث حكم بامتناع التحلل من العمرة ، وعلل بهذه العلة : دل ذلك على أنه أجرى التقصير مجرى الحلق في امتناعه قبل بلوغ الهدي محله ، مع أن النص لم يدل عليه بلفظه ، وإنما ألحق به بالمعنى .



                                        وقوله " وحاضت عائشة - إلى آخره " يدل على امتناع الطواف على الحائض إما لنفسه ، وإما لملازمته لدخول المسجد . ويدل على فعلها لجميع أفعال الحج إلا ذلك . وعلى أنه لا تشترط الطهارة في بقية الأعمال .

                                        وقوله غير أنها لم تطف بالبيت " فيه حذف ، تقديره : ولم تسع . ويبين ذلك رواية أخرى صحيحة ، ذكر فيها " أنها بعد أن طهرت طافت وسعت " .



                                        ويؤخذ من هذا : أن السعي لا يصح إلا بعد طواف صحيح . فإنه لو صح لما لزم من تأخير الطواف بالبيت تأخير السعي ، إذ هي قد فعلت المناسك كلها غير الطواف بالبيت ، فلولا اشتراط تقدم الطواف على السعي لفعلت في السعي ما فعلت في غيره . وهذا الحكم متفق عليه بين أصحاب الشافعي ومالك . وزاد المالكية قولا آخر : أن السعي لا بد أن يكون بعد طواف واجب وإنما صح بعد طواف القدوم - على هذا القول - لاعتقاد هذا القائل وجوب طواف القدوم .

                                        وقولها " ينطلقون بحج وعمرة " تريد العمرة التي فسخوا الحج إليها ، والحج الذي أنشئوه من مكة . وقولها " وأنطلق بحج ؟ " يشعر بأنها لم تحصل لها العمرة ، وأنها لم تحل بفسخ الحج الأول إلى العمرة . وهذا ظاهر ، إلا أنهم لما نظروا إلى روايات أخرى اقتضت : أن عائشة اعتمرت ; لأنه عليه السلام أمرها بترك عمرتها ، ونقض رأسها ، وامتشاطها ، والإهلال بالحج لما حاضت لامتناع التحلل من العمرة بوجود الحيض ، ومزاحمته وقت الحج وحملوا أمره عليه السلام [ ص: 473 ] بترك العمرة على ترك المضي في أعمالها . لا على رفضها بالخروج منها . وأهلت بالحج ، مع بقاء العمرة . فكانت قارنة - اقتضى ذلك : أن تكون قد حصل لها عمرة . فأشكل حينئذ قولها " ينطلقون بحج وعمرة ، وأنطلق بحج " إذ هي أيضا قد حصل لها حج وعمرة ، لما تقرر من كونها صارت قارنة . فاحتاجوا إلى تأويل هذا اللفظ . فأولوا قولها " ينطلقون بحج وعمرة ، وأنطلق بحج " على أن المراد : ينطلقون بحج مفرد عن عمرة ، وعمرة منفردة عن حج . وأنطلق بحج غير مفرد عن عمرة . فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة ، ليحصل لها قصدها في عمرة مفردة عن حج ، وحج مفرد عن عمرة . هذا حاصل ما قيل في هذا . مع أن الظاهر خلافه ، بالنسبة إلى هذا الحديث ، لكن الجمع بين الروايات ألجأهم إلى مثل هذا .



                                        وقوله " فأمر عبد الرحمن - إلى آخره " يدل على جواز الخلوة بالمحارم ولا خلاف فيه . وقوله " أن يخرج معها إلى التنعيم " يدل على أن من أراد أن يحرم بالعمرة من مكة لا يحرم بها من جوفها . بل عليه الخروج إلى الحل . فإن " التنعيم " أدنى الحل . وهذا معلل بقصد الجمع بين الحل والحرم في العمرة ، كما وقع ذلك في الحج . فإنه جمع فيه بين الحل والحرم . فإن " عرفة " من أركان الحج . وهي من الحل . واختلفوا في أنه لو أحرم بالعمرة من مكة ، ولم يخرج إلى الحل : هل يكون الطواف والسعي صحيحا ويلزمه دم ، أو يكون باطلا ؟ وفي مذهب الشافعي خلاف . ومذهب مالك : أنه لا يصح . وجمد بعض الناس فشرط الخروج إلى التنعيم بعينه . ولم يكتف بالخروج إلى مطلق الحل . ومن علل بما ذكرناه ، وفهم المعنى - وهو الجمع بين الحل والحرم - اكتفى بالخروج إلى مطلق الحل .




                                        الخدمات العلمية