الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        معلومات الكتاب

                                        إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

                                        ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

                                        صفحة جزء
                                        2 - الحديث الثاني : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ } .

                                        التالي السابق


                                        " أبو هريرة " في اسمه اختلاف شديد . وأشهره : عبد الرحمن بن صخر . أسلم عام خيبر سنة سبع من الهجرة ، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من أحفظ الصحابة ، سكن المدينة . وتوفي - قال خليفة : سنة سبع وخمسين . وقال الهيثم : سنة ثمان ، وقال الواقدي : سنة تسع .

                                        الكلام عليه من وجوه :

                                        أحدها : " القبول " وتفسير معناه .

                                        قد استدل جماعة من المتقدمين بانتفاء القبول على انتفاء الصحة ، كما قالوا في قوله صلى الله عليه وسلم { لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار } أي من بلغت سن المحيض .

                                        والمقصود بهذا الحديث : الاستدلال على اشتراط الطهارة من الحدث في صحة الصلاة .

                                        ولا يتم ذلك إلا بأن يكون انتفاء القبول دليلا على انتفاء الصحة .

                                        وقد حرر المتأخرون في هذا بحثا .

                                        ; لأن انتفاء القبول قد ورد في مواضع مع ثبوت الصحة ، كالعبد إذا أبق لا تقبل له صلاة ، وكما ورد فيمن أتى عرافا .

                                        وفي شارب الخمر .

                                        فإذا أريد تقرير الدليل على انتفاء الصحة من انتفاء القبول .

                                        فلا بد من تفسير معنى القبول ، وقد فسر بأنه ترتب الغرض المطلوب من الشيء على الشيء .

                                        يقال : قبل فلان عذر فلان : إذا رتب على عذره الغرض المطلوب منه .

                                        وهو محو الجناية والذنب . [ ص: 66 ]

                                        فإذا ثبت ذلك فيقال ، مثلا في هذا المكان : الغرض من الصلاة : وقوعها مجزئة بمطابقتها للأمر .

                                        فإذا حصل هذا الغرض : ثبت القبول ، على ما ذكر من التفسير .

                                        وإذا ثبت القبول على هذا التفسير : ثبتت الصحة .

                                        وإذا انتفى القبول على هذا التفسير : انتفت الصحة .

                                        وربما قيل من جهة بعض المتأخرين : إن " القبول " كون العبادة بحيث يترتب الثواب والدرجات عليها .

                                        و " الإجزاء " كونها مطابقة للأمر والمعنيان إذا تغايرا ، وكان أحدهما أخص من الآخر : لم يلزم من نفي الأخص نفي الأعم .

                                        و " القبول " على هذا التفسير : أخص من الصحة ، فإن كل مقبول صحيح ، وليس كل صحيح مقبولا .

                                        وهذا - إن نفع في تلك الأحاديث التي نفي عنها القبول مع بقاء الصحة فإنه يضر في الاستدلال بنفي القبول على نفي الصحة ، كما حكينا عن الأقدمين .

                                        اللهم إلا أن يقال : دل الدليل على كون القبول من لوازم الصحة .

                                        فإذا انتفى انتفت ، فيصح الاستدلال بنفي القبول على نفي الصحة حينئذ .

                                        ويحتاج في تلك الأحاديث التي نفي عنها القبول مع بقاء الصحة إلى تأويل ، أو تخريج جواب .

                                        على أنه يرد على من فسر " القبول " بكون العبادة مثابا عليها ، أو مرضية ، أو ما أشبه ذلك - إذا كان مقصوده بذلك : أن لا يلزم من نفي القبول نفي الصحة : أن يقال : القواعد الشرعية تقتضي : أن العبادة إذا أتي بها مطابقة للأمر كانت سببا للثواب والدرجات والإجزاء .

                                        والظواهر في ذلك لا تنحصر .



                                        الوجه الثاني : في تفسير معنى : " الحدث " فقد يطلق بإزاء معان ثلاثة :

                                        أحدها : الخارج المخصوص الذي يذكره الفقهاء في باب نواقض الوضوء . ويقولون : الأحداث كذا وكذا .

                                        الثاني : نفس خروج ذلك الخارج .

                                        الثالث : المنع المرتب على ذلك الخروج .

                                        وبهذا المعنى يصح قولنا " رفعت الحدث " و " نويت رفع الحدث " فإن كل واحد من الخارج والخروج قد وقع .

                                        وما وقع يستحيل رفعه ، بمعنى أن لا يكون واقعا .

                                        وأما المنع المرتب على الخروج : فإن الشارع حكم به .

                                        ومد غايته إلى استعمال المكلف الطهور ، فباستعماله يرتفع المنع .

                                        فيصح قولنا " رفعت الحدث " و " ارتفع الحدث " أي [ ص: 67 ] ارتفع المنع الذي كان ممدودا إلى استعمال المطهر .

                                        وبهذا التحقيق يقوى قول من يرى أن التيمم يرفع الحدث .

                                        ; لأنا لما بينا أن المرتفع : هو المنع من الأمور المخصوصة ، وذلك المنع مرتفع بالتيمم .

                                        فالتيمم يرفع الحدث .

                                        غاية ما في الباب : أن رفعه للحدث مخصوص بوقت ما ، أو بحالة ما .

                                        وهي عدم الماء . وليس ذلك ببدع ، فإن الأحكام قد تختلف باختلاف محالها . وقد كان الوضوء في صدر الإسلام واجبا لكل صلاة ، على ما حكوه ولا نشك أنه كان رافعا للحدث في وقت مخصوص .

                                        وهو وقت الصلاة .

                                        ولم يلزم من انتهائه بانتهاء وقت الصلاة في ذلك الزمن : أن لا يكون رافعا للحدث .

                                        ثم نسخ ذلك الحكم عند الأكثرين .

                                        ونقل عن بعضهم ; أنه مستمر .

                                        ولا شك أنه لا يقول : إن الوضوء لا يرفع الحدث .

                                        نعم ههنا معنى رابع ، يدعيه كثير من الفقهاء ، وهو أن الحدث وصف حكمي مقدر قيامه بالأعضاء على مقتضى الأوصاف الحسية .

                                        وينزلون ذلك الحكمي منزلة الحسي في قيامه بالأعضاء .

                                        فما نقول : إنه يرفع الحدث - كالوضوء والغسل - يزيل ذلك الأمر الحكمي .

                                        فيزول المنع المرتب على ذلك الأمر المقدر الحكمي .

                                        وما نقول بأنه لا يرفع الحدث ، فذلك المعنى المقدر القائم بالأعضاء حكما باق لم يزل .

                                        والمنع المرتب عليه زائل .

                                        فبهذا الاعتبار نقول : إن التيمم لا يرفع الحدث ، بمعنى أنه لم يزل ذلك الوصف الحكمي المقدر وإن كان المنع زائلا .

                                        وحاصل هذا : أنهم أبدوا للحدث معنى رابعا ، غير ما ذكرناه من الثلاثة المعاني .

                                        وجعلوه مقدرا قائما بالأعضاء حكما ، كالأوصاف الحسية ، وهم مطالبون بدليل شرعي يدل على إثبات هذا المعنى الرابع ، الذي ادعوه مقدرا قائما بالأعضاء ، فإنه منفي بالحقيقة ، والأصل موافقة الشرع لها ، ويبعد أن يأتوا بدليل على ذلك .

                                        وأقرب ما يذكر فيه : أن الماء المستعمل قد انتقل إليه المانع ، كما يقال ، والمسألة متنازع فيها .

                                        فقد قال جماعة بطهورية الماء المستعمل .

                                        ولو قيل بعدم طهوريته أو بنجاسته : لم يلزم منه انتقال مانع إليه .

                                        فلا يتم الدليل .

                                        والله أعلم .

                                        الوجه الثالث : استعمل الفقهاء " الحدث " عاما فيما يوجب الطهارة ، فإذا حمل الحديث عليه - أعني قوله { إذا أحدث } - جمع أنواع النواقض على [ ص: 68 ] مقتضى هذا الاستعمال ، لكن أبو هريرة قد فسر الحدث في بعض الأحاديث - لما سئل عنه - بأخص من هذا الاصطلاح ، وهو الريح ، إما بصوت أو بغير صوت ، فقيل له : " يا أبا هريرة ، ما الحدث ؟ فقال : فساء أو ضراط " ولعله قامت له قرائن حالية اقتضت هذا التخصيص .

                                        الوجه الرابع : استدل بهذا الحديث على أن الوضوء لا يجب لكل صلاة .

                                        ووجه الاستدلال به : أنه صلى الله عليه وسلم نفى القبول ممتدا إلى غاية الوضوء .

                                        وما بعد الغاية مخالف لما قبلها .

                                        فيقتضي ذلك قبول الصلاة بعد الوضوء مطلقا .

                                        وتدخل تحته الصلاة الثانية قبل الوضوء لها ثانيا .




                                        الخدمات العلمية