الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ جواز اختصار الحديث مطلقا ] :

( أو ) هو القول الثاني ( أجز ) ذلك مطلقا احتاج إلى تغيير لا يخل بالمعنى أم لا ، تقدمت روايته له تاما أم لا ، لما سيجيء [ ص: 152 ] قريبا ، وبه قال مجاهد حيث قال : انقص من الحديث ما شئت ، ولا تزد فيه . ونحوه قول ابن معين : إذا خفت أن تخطئ في الحديث فانقص منه ولا تزد . ونسبه عياض لمسلم ، والموجود عنه ما سيأتي .

[ جواز اختصار الحديث مع الشروط ] :

( أو ) وهو القول الثالث : التفصيل ، فأجزه ( إن أتم ) بضم أوله مبنيا للمفعول ، إيراده منه أو من غيره مرة بحيث أمن بذلك من تفويت حكم أو سنة أو نحو ذلك ، وإلا فلا ، وإن جازت عند قائله - كما قال ابن الصلاح ومن تبعه - الرواية بالمعنى .

( أو ) وهو القول الرابع بتفصيل آخر : فأجزه ، كما ذهب إليه الجمهور ، إن وقع ( لعالم ) عارف ، وإلا فلا ، ( ومز ) . أي : ميز ( ذا ) القول عن سائرها بوصفه ( بالصحيح إن يكن ما اختصره ) بالحذف من المتن ( منفصلا عن ) القدر ( الذي قد ذكره ) منه غير متعلق به ، بحيث لا يختل البيان ولا تختلف الدلالة فيما نقله بترك ما حذفه كالاستثناء ، مثل قوله : ( لا يباع الذهب بالذهب إلا سواء بسواء ) . والغاية ، مثل قوله : ( لا يباع النخل حتى تزهى ) . والشرط ونحوها .

قال صاحب ( المستصفى ) : ومن جوزه شرط عدم تعلق المذكور بالمتروك تعلقا يغير معناه ، فأما إذا تعلق به ، كشرط العبادة أو ركنها ، فنقل البعض تحريف وتلبيس . [ ص: 153 ] قال الخطيب : ولا فرق بين أن يكون ذلك تركا لنقل العبادة ، كنقل بعض أفعال الصلاة ، أو تركا لنقل فرض آخر هو شرط في صحة العبادة ، كترك نقل وجوب الطهارة ونحوها . قال : ( وعلى هذا الوجه يحمل قول من قال : لا يحل الاختصار ) . انتهى .

ومن الأمثلة لبعض هذا مما ذكره إمام الحرمين حديث ابن مسعود : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بحجرين وروثة يستنجي بهما فألقى الروثة ، وقال : ( إنها رجس ، ابغ لي ثالثا ) فلا يجوز الاقتصار على ما عدا قوله : ( ابغ لي ثالثا ) .

وإن كان لا يخل برمي الروثة وأنها رجس ، لإيهامه الاكتفاء بحجرين ، لكن فرق الإمام لمثل هذا بين أن يقصد الراوي الاحتجاج به لمنع استعمال الروث ، فيسوغ حينئذ ، أو لم يقصد غرضا خاصا فلا . وفيه توقف .

ثم إن ما ذهب إليه الجمهور لا ينازع فيه من لم يجز النقل بالمعنى ; لأن الذي نقله ، والذي حذفه ، والحالة هذه ، بمنزلة خبرين منفصلين في أمرين لا تعلق لأحدهما بالآخر ، وإليه الإشارة بقول مسلم في مقدمة ( صحيحه ) : إنه لا يكرر إلا أن يأتي موضع لا يستغنى فيه عن ترداد حديث فيه زيادة معنى ، أو إسناد يقع إلى جنب إسناد لعلة تكون هناك ; لأن المعنى الزائد في الحديث المحتاج إليه يقوم مقام حديث تام ، فلا بد من إعادة الحديث الذي فيه ما وصفنا من الزيادة ، أو يفصل ذلك المعنى من جملة الحديث على اختصاره إذا أمكن ، ولكن تفصيله ربما عسر من جملته ، فإعادته بهيئته إذا ضاق ذلك أسلم .

فأما ما وجدنا بدا من إعادته [ ص: 154 ] بجملته من غير حاجة منا إليه فلا نتولى فعله . والقصد أن في قوله : " إذا أمكن " وكذا في قوله : " ولكن تفصيله " إلى آخره . الإشارة إلى ما ذهب إليه الجمهور ، وأنه لا يفصل إلا ما لا ارتباط له بالباقي ، حتى إنه لو شك في الارتباط أو عدمه تعين ذكره بتمامه وهيئته ليكون أسلم ، مخافة من الخطأ والزلل . قاله النووي .

وسواء في الجواز للعارف بشرطه ، رواه هو أو غيره ، تاما أم لا ، قبل أو بعد ، لكن محل تسويغ روايته أيضا ناقصا إذا كان رفيع المنزلة في الضبط والإتقان والثقة بحيث لا يظن به زيادة ما لم يسمعه ، أو نسيان ما سمعه لقلة ضبطه وكثرة غلطه ، ( و ) إلا فـ ( ما لذي ) بكسر اللام وذال معجمة ، أي : صاحب خوف من تطرق ( تهمة ) إليه بذلك ( أن يفعله ) سواء رواه كذلك ابتداء حيث علم من روايته له أيضا بعد أو من غيرها أنه عنده بأزيد ، أو بعد روايته له تاما ، بل واجب عليه أن ينفي هذه الظنة عن نفسه ، كما صرح به الخطيب وغيره .

وكذا قال الغزالي في ( المستصفى ) بعد اشتراطه في الجواز روايته مرة بتمامه : إن شرطه ألا يتطرق إليه سوء الظن بالتهمة ، فإن علم أنه يتهم باضطراب النقل وجب الاحتراز عنه .

وممن أشار لوجوب التحرز للخوف من إساءة الظن ابن دقيق العيد ، وعبارته : إن التحرز متأكد في حق العلماء ومن يقتدى به ، فلا [ ص: 155 ] يجوز لهم أن يفعلوا فعلا يوجب الظن السوء بهم وإن كان لهم فيه مخلص ; لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم . ولكن في كلام البيهقي والخرائطي ما يشهد للاستحباب ، وهو ظاهر كما بينته في موضع آخر .

( فإن ) خالف ( وأبى ) إلا أن يرويه ناقصا لعدم وجوب ذلك عنده ، ( فجاز ) لهذا العذر ، كما صرح به سليم الرازي : إذا لم يكن رواه قبل تاما ( ألا يكمله ) بعد ذلك ، ويكتم الزيادة ، وتوقف فيه العز بن جماعة ; لأن المفسدة المرتبة على الكتم وتضييع الحكم أشد من الاتهام وما يتعلق به ، وأشد المفسدتين يترك بارتكاب الأخف إذا تعين طريقا خصوصا .

والزيادة غير قادحة ، وأخص منه إذا قلنا : إنها مقبولة . وكيف يكون ذلك عذرا في شيء تحمله عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أن يحمل العذر على أنه عذر في التأخير لا في الإهمال ، ويتطرق إلى هذا أيضا الكلام في وقت الحاجة باعتبار التأخير عنها .

نعم قيد ابن الصلاح المنع من الاختصار ممن هذا حاله بمن تعين عليه أداء تمامه فإنه قال : إن من اتصف بتطرق الاتهام إليه وكان قد تعين عليه أداء تمامه لا يجوز له أن يرويه ابتداء ناقصا ; لأنه بذلك يعرض الزائد لإخراجه عن حيز الاستشهاد به أو المتابعة ونحوها .

ومن الأدلة لهذا القول ما احتج به عبد الغني بن سعيد الحافظ لمطلق الجواز ، [ ص: 156 ] وهو أنه صلى الله عليه وسلم قام ليلة بآية يرددها حتى أصبح ، وصلى صلاة ابتدأ فيها بسورة حتى إذا بلغ ذكر موسى أو عيسى أخذته سعلة فركع .

وإذا كان سيد الخلق قد فعل هذا في سيد الحديث وهو القرآن ، ففصل بعضه من بعض ; كان غيره بذلك أولى . ولكنا نقول على تقدير تسليم الاستدلال به : العلة في جوازه في القرآن ، وهي حفظه في الصدور ، موجودة والحالة هذه ، حيث أمنا الإلباس من حذف الباقي .

ونحوه أنه صلى الله عليه وسلم قال لبلال رضي الله عنه : ( قد سمعتك يا بلال وأنت تقرأ من هذه السورة ، ومن هذه السورة ) قال : كلام طيب يجمعه الله تعالى بعضه إلى بعض . فصوبه النبي صلى الله عليه وسلم . رواه أبو داود وغيره .

وكذا من أدلة الجواز - فيما قيل - قوله صلى الله عليه وسلم : ( نضر الله من سمع مقالتي فلم يزد فيها ) إذ لو لم يجز النقص لذكره كما ذكر الزيادة ، وأيضا فعمدة الرواية في التجويز هو الصدق ، وعمدتها في التحريم هو الكذب ، وفي مثل ما ذكرناه الصدق حاصل ، فلا وجه للمنع . قاله ابن دقيق العيد قال : فإن احتاج ذلك إلى تغيير لا يخل بالمعنى فهو خارج على جواز الرواية بالمعنى ، وكل ما تقدم في الاقتصار على بعض الحديث في الرواية .

التالي السابق


الخدمات العلمية