الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 332 ] [ طلب العلو في الحديث سنة ] :

( وطلب العلو ) الذي هو قلة الوسائط في السند أو قدم سماع الراوي أو وفاته ( سنة ) عمن سلف كما قاله الإمام أحمد ، بل قال الحاكم : إنه سنة صحيحة ، متمسكا في ذلك بحديث أنس في مجيء ضمام بن ثعلبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسمع منه مشافهة ما سلف سماعه له من رسوله إليهم ; إذ لو كان العلو غير مستحب لأنكر عليه صلى الله عليه وسلم سؤاله عما أخبره به رسوله عنه ، وترك اقتصاره على خبره له .

ولكن إنما يتم الاستدلال بذلك على اختيار البخاري في أن قول ضمام : ( آمنت بما جئت به ) إخبار ، وهو الذي رجحه عياض ، ولكنه قال : إنه حضر بعد إسلامه مستثبتا من الرسول صلى الله عليه وسلم لما أخبر به رسوله إليهم ; لأنه قال في حديث ثابت عن أنس عند مسلم وغيره : ( فإن رسولك زعم ) ، وقال في رواية كريب عن ابن عباس عند الطبري : ( أتتنا كتبك ، وأتتنا رسلك ) .

أما على القول بأن قوله : ( آمنت ) إنشاء كما هو مقتضى صنيع أبي داود حيث ذكره في باب ما جاء في المشرك يدخل المسجد ، ورجحه القرطبي متمسكا فيه بقوله : ( زعم ) ; فإن الزعم القول الذي لا يوثق به فيما قاله ابن السكيت وغيره ، فلا ; فإنه حينئذ إنما يكون مجيئه وهو شاك لكونه لم يصدقه ، وأرسله قومه ليسأل لهم .

قال شيخنا : ( وفيه نظر ، أما أولا : فالزعم يطلق أيضا على القول المحقق كما نقله أبو عمر الزاهد في شرح فصيح شيخه ثعلب ، وأكثر سيبويه من قوله : زعم الخليل في مقام الاحتجاج .

وأما ثانيا : فلو كان إنشاء لكان طلب معجزة توجب له التصديق ، على أن القرطبي استدل به على صحة إيمان المقلد للرسول صلى الله عليه وسلم ولو [ ص: 333 ] لم تظهر له معجزة ) ، وكذا أشار إليه ابن الصلاح .

وبالجملة ، فطرقه الاحتمال ، ولم يتعين أن يكون ضمام قصد العلو ، وكذا نازع بعضهم في كونه قصد ذلك بقوله في باقي الخبر : ( وأنا رسول من ورائي ) . وعلى تقدير تحتم قصد العلو فعدم الإنكار يحتمل أن يكون لكونه جائزا ، ولكن قد استدل له بقول النبي صلى الله عليه وسلم لتميم الداري لما رآه كما في بعض طرق حديثه في الجساسة : ( يا تميم ، حدث الناس بما حدثتني ) . وبقوله أيضا : ( خير الناس قرني ) الحديث ; فإن العلو يقربه من القرون الفاضلة .

وقد قال بعضهم : من أدرك إسنادا عاليا في الصغر رجا عند الشيخوخة والكبر أن يكون من قرن أفضل من الذي هو فيه والذي بعده ويليه .

ويشير إليه قول محمد بن أسلم الطوسي : قرب الإسناد قرب ، أو قال : قربة إلى الله عز وجل ; فإن القرب من الرسول بلا شك قرب إلى الله .

ونحوه قول أبي حفص بن شاهين في جزء ( ما قرب سنده من رسول الله صلى الله عليه وسلم ) من تخريجه : نرجو بهذه الأحاديث أن نكون من جملة من قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) .

ثم أسند إلى زرارة بن أوفى قال : القرن مائة وعشرون عاما . قلت : وهذا أقصى ما قيل في تحديده ، ولكن أشهره ما وقع في حديث عبد الله بن بسر عند مسلم مما يدل على أن [ ص: 334 ] القرن مائة .

ويمكن الاستدلال للعلو أيضا بأنه صلى الله عليه وسلم لما أخبره عبد الله بن زيد عن رؤيته في المنام الأذان ، وأعلمه بألفاظه وكيفيته ، قال له : ( ألقه على بلال ) ، ولم يلقه صلى الله عليه وسلم عليه بنفسه .

وبقول ابن عباس حين سمع عن عائشة بعض الأحاديث : ( لو كنت أدخل عليها لدخلت حتى تشافهني به ) .

وكذا مما استدل به له استحباب الرحلة ; إذ في الاقتصار على النازل - كما قال الخطيب - إبطال لها وتركها ، وقد رحل خلق من العلماء قديما وحديثا إلى الأقطار البعيدة طلبا للعلو كما قدمنا .

قال الإمام أحمد : ( وكان أصحاب عبد الله يرحلون من الكوفة إلى المدينة فيتعلمون من عمر ويسمعونه منه ) .

وهذا كله شاهد لتفضيل العلو ، وهو المشهور ، بل لم يحك الحاكم خلافه ، وحينئذ فلا يكتفى بسماع النازل مع وجود العالي ، وقد حكى الخطيب في الاكتفاء وعدمه مذهبين ، وذكر من أدلة الأول قول البراء رضي الله عنه : ( ليس كلنا كان يسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كانت لنا ضياع وأشغال ، ولكن الناس لم يكونوا يكذبون يومئذ ، فيحدث الشاهد الغائب ) .

وقول حماد بن زيد : كنا نكون في مجلس أيوب السختياني فنسمع رجلا يحدث عن [ ص: 335 ] أيوب فنكتبه منه ، ولا نسأل من أيوب . وميل أحمد إلى الاكتفاء به ; حيث فوت بالاشتغال بالعلو من يسترشد به للاستنباط ونحوه ; فإنه قال لابن معين : إن فاتك حديث بعلو وجدته بنزول ، وإن فاتك عقل هذا الفتى - وعنى إمامنا الشافعي رحمهما الله - أوشك أن لا تراه .

التالي السابق


الخدمات العلمية