الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ذكر أمهات الكتب في هذا الفن ] وممن جمع في ذلك اليسير أيضا الحسين بن عياش أبو بكر السلمي ومحمد بن المستنير أبو علي المعروف بقطرب . وكانت وفاتهما قبل معمر ، الأول بست سنين ، والثاني بأربع . ثم جمع عبد الملك بن قريب الأصمعي عصري معمر ، بل المتوفى بعده في سنة ثلاث عشرة ومائتين ، كتابا ، فزاد وأحسن . في آخرين من أئمة الفقه واللغة جمعوا أحاديث تكلموا على لغتها ومعناها في أوراق ذوات عدد . ولم يكد أحد منهم ينفرد عن غيره بكبير أمر لم يذكره الآخر ، وكذا صنف أبو عبد الرحمن اليزيدي في ذلك .

[ ص: 27 ] ( ثم تلى ) الجميع قريبا من هذا الآن ( أبو عبيد ) القاسم بن سلام ، المتوفى في سنة أربع وعشرين ومائتين ( 224هـ ) ، فجمع كتابه المشهور في غريب الحديث والآثار ، تعب فيه جدا ; فإنه أقام فيه أربعين سنة بحيث استقصى وأجاد بالنسبة لمن قبله ، ووقع من أهل العلم بموقع جليل ، وصار قدوة في هذا الشأن كما قال ابن الصلاح وغيره ، حتى إن ابن كثير قال : إنه أحسن شيء وضع فيه ، يعني قبله . ولكنه غير مرتب ، فرتبه الشيخ موفق الدين بن قدامة على الحروف ، ولم يزل الناس ينتفعون بكتاب أبي عبيد . وعمل أبو سعيد الضرير كتابا في التعقب عليه .

وكذا ممن جمع الغريب في هذا الوقت الإمام أبو الحسن علي بن المديني ، وأحمد بن الحسن الكندي البغدادي تلميذ معمر ، وأبو عمرو شمر بن حمدويه المتوفى في سنة ست وخمسين ومائتين ( 256هـ ) . وكتابه يقال : إنه قدر كتاب أبي عبيد مرارا .

( واقتفى ) أثر أبي عبيد وحذا حذوه أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ( القتبي ) بضم القاف وفتح المثناة نسبة لجده ، وكانت وفاته في سنة ست وسبعين ومائتين ، فصنف كتابه المشهور وجعله ذيلا على كتاب أبي عبيد ، فكان [ ص: 28 ] أكبر حجما من أصله ، مع أنه أضاف إليه التنبيه على كثير من أوهامه ، بل وأفرد للاعتراض عليه كتابا سماه إصلاح الغلط .

وقد انتصر لأبي عبيد أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي في جزء لطيف رد فيه على ابن قتيبة ، لكن قال لنا شيخنا عن شيخه المصنف : إن ابن قتيبة كان كثير الغلط .

وكذا صنف فيه أبو إسحاق الحربي أحد معاصري ابن قتيبة ، والمتوفى بعده في سنة خمس وثمانين ، كتابا حافلا ، أطاله بالأسانيد وسياق المتون بتمامها ، ولو لم يكن في المتن من الغريب إلا كلمة ، فهجر لذلك كتابه مع جلالة مصنفه وكثرة فوائد كتابه . ثم صنف فيه غير واحد من المائة الثالثة أيضا ; كأبي العباس المبرد المتوفى سنة خمس وثمانين ، وثعلب المتوفى سنة إحدى وتسعين ، وأبي الحسن محمد بن عبد السلام الخشي المتوفى سنة ست وثمانين .

ومن المائة الرابعة ; كأبي محمد قاسم بن ثابت بن حزم السرقسطي ، المتوفى سنة اثنتين . وكتابه ، واسمه ( الدلائل ) ، ذيل على كتاب القتيبي ، وكان قاسم قد ابتدأه ، ثم مات قبل أن يكمله ، فأكمله أبوه ; لتأخر وفاته عنه مدة ; فإنه مات سنة ثلاث عشرة . وكأبي بكر بن الأنباري المتوفى سنة ثمان وعشرين ، وأبي عمر الزاهد غلام ثعلب ، المتوفى سنة خمس وأربعين . وغريبه صنفه على مسند أحمد خاصة ، وهو حسن جدا فيما قيل .

( ثم ) بعدهم أبو سليمان ( حمد ) هو ابن محمد بن إبراهيم الخطابي البستي [ ص: 29 ] المتوفى سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة ( 388هـ ) ، ( صنفا ) كتابه المعروف ، وهو أيضا ذيل على القتيبي مع التنبيه على أغاليطه .

فهذه الثلاثة - أعني كتب الخطابي والقتيبي وأبي عبيد - أمهات الكتب المؤلفة في ذلك ، وإليها المرجع في تلك الأعصار . ووراءها - كما قال ابن الصلاح - مجاميع تشتمل من ذلك على زوائد وفوائد كثيرة ، بحيث كما قال ابن الأثير : لم يخل زمن من مصنف فيه .

ومنها في المائة الخامسة كتاب أبي عبيد أحمد بن محمد بن محمد الهروي صاحب أبي منصور الأزهري اللغوي وعصري الخطابي ، بل والمتأخر بعده ; فإنه مات سنة إحدى وأربعمائة ( 401هـ ) ، جمع فيه بين كتابي أبي عبيد وابن قتيبة وغيرهما ممن تقدم ، مع زيادات جمة ، وإضافته لذلك غريب القرآن ، مرتبا لذلك كله على حروف المعجم ، فكان أجمع مصنف في ذلك قبله . واختصره الفقيه أبو الفتح سليم بن أيوب الرازي المتوفى سنة سبع وأربعين ( 47هـ ) ، وسماه ( تقريب الغريبين ) . وكذا اختصره مع زيادات يسيرة الحافظ أبو الفرج بن الجوزي المتوفى في أواخر المائة السادسة سنة سبع وتسعين . بل وجمع الحافظ أبو الفضل محمد بن ناصر البغدادي - وكانت وفاته سنة خمسين وخمسمائة ( 550هـ ) - أوهامه في تصنيف مستقل . وذيل عليه على طريقته في الغريبين والترتيب [ ص: 30 ] الحافظ أبو موسى المديني ذيلا حسنا ، ثم جمع بينهما - أعني كتاب الهروي والذيل عليه لأبي موسى مقتصرا على الحديث خاصة - المجد أبو السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري مع زيادات جمة ، فكان كتابه النهاية كاسمه ، وعول عليه كل من بعده ; لجمعه وسهولة التناول منه ، مع إعواز قليل فيه . ويقال : إن الصفي محمود بن محمد بن حامد الأرموي ذيل عليه أو كتب على نسخته منه حواشي ، فأفردها غيره ، كما أن للمصنف على نسخته منه أيضا حواشي كثيرة ، كان عزمه تجريدها في ذيل كبير ، وما أظنه تيسر ، وقد اختصرها غير واحد .

وكذا لابن الأثير كتاب آخر سماه ( منال الطالب في شرح طوال الغرائب ) في مجلد . بل وله شرح غريب كتابه ( جامع الأصول ) في مجلد . وكانت وفاته آخر يوم من سنة ست وستمائة ( 606هـ ) .

ومنها كتاب ( الفائق ) لأبي القاسم الزمخشري من أنفس الكتب ; لجمعه المتفرق في مكان واحد مع حسن الاختصار وصحة النقل . وهو وإن كان على حروف المعجم فهو ملتزم استيفاء ما في كل حديث من غريب في حرف من حروف بعض كلماته ، فعسر لذلك الكشف منه بالنسبة لكتاب الهروي ، ولكنه أسهل تناولا من كثير ممن قبله . وكانت وفاة مؤلفه سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة ( 538هـ ) .

ومنها ( مجمع الغرائب ) للحافظ أبي الحسين عبد الغافر بن إسماعيل بن أبي الحسين عبد الغافر بن محمد الفارسي ثم النيسابوري ، المتوفى سنة تسع وعشرين وخمسمائة ( 529هـ ) . ورأيت في كلام الزركشي بعد أن ذكر النهاية ما نصه : وزاد [ ص: 31 ] عليه الكاشغري في مجمع الغرائب ، فينظر .

ومنها كتاب ( المشارق ) للقاضي عياض المتوفى سنة أربع وأربعين وخمسمائة ( 544هـ ) . وهو أجل كتاب ، جمع فيه بين ضبط الألفاظ واختلاف الروايات وبيان المعنى ، لكنه خصه بالموطأ والصحيحين مع ما أضاف إليه من مشتبه الأسماء والأنساب . وينسب لأبي إسحاق بن قرقول تلميذ القاضي عياض المتوفى بعده في سنة تسع وستين كتاب ( المطالع ) .

والظاهر أنه منتزع من ( المشارق ) لشيخه ، مع التوقف في كونه نسبه لنفسه ، وقد نظمه الإمام شمس الدين محمد بن محمد بن عبد الكريم بن الموصلي فأحسن ما شاء . وكذا في الغريب ( المجرد ) لعبد الله بن يوسف البغدادي ، و ( قنعة الأريب في تفسير الغريب ) لبعضهم ، وغيره لمحمد بن جعفر النحوي ، وما لا يحصى كثرة ، وغريب البخاري خاصة لأبي الوليد بن الصابوني ، وغريب الموطأ لبعضهم . وكذا جرد بعضهم من بعض شروح [ ص: 32 ] مسلم غريبه ، فهذا ما علمته الآن من كتب غريب الحديث .

قال ابن كثير : وأجل كتاب يوجد فيه مجامع ذلك كتاب ( الصحاح ) للجوهري . قلت : و ( القاموس ) للمجد الشيرازي شيخ شيوخنا . وهو - كما قال ابن الصلاح - يقبح جهله بأهل الحديث خاصة ، ثم بأهل العلم عامة .

التالي السابق


الخدمات العلمية