الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ دلائل النسخ ] ( ثم بنص الشارع ) - صلى الله عليه وسلم - على إبطال أحد الدليلين المتعارضين وتصريحه بذلك ; كقوله : هذا ناسخ ، أو في ما معناه ; كقوله : ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ; فإنها تذكر الآخرة ) . وكرجم ماعز دون جلده بعد قوله : ( الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ) . كما ذكره ابن السمعاني وغيره . ( أو ) بنص ( صاحب ) من أصحابه رضي الله عنهم صريحا ; كقول جابر رضي الله عنه : ( كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار ) . أو أن أحدهما شرع بمكة ، والآخر بالمدينة . ( أو ) بغيرهما ، وذلك كأن ( عرف التاريخ ) للخبرين المتعذر الجمع بينهما ، وتأخر أحدهما عن الآخر ، وأمثلته كثيرة . ( أو أجمع تركا ) ; أي : على ترك العمل بمضمون الحديث . ( بان ) ; أي : ظهر بكل واحد من هذه الأربعة التي هي نص الشارع أو الصحابي أو العلم بالتاريخ أو الإجماع ، ( نسخ ) للحكم الآخر ، وأصرحها أولها .

وأما ثالثها فمحله [ ص: 53 ] في غير المتواترين . أما إذا في أحد المتواترين أنه كان متقدما على الآخر ففيه خلاف للأصوليين ، والأكثرون على عدم قبوله ، وبه جزم بعضهم ; لأنه يتضمن نسخ المتواتر بالآحاد ، وهو غير واقع . وحجة الطرف الآخر أن النسخ إنما هو بالمتواتر ، وخبر الواحد معين للناسخ ، لا ناسخ ; لأنه علم أن أحدهما ناسخ ، والآخر منسوخ بدونه .

وكذا محل ثانيهما فيما إذا كان مستنده النقل ، أو قال : القول بكذا منسوخ ، أو : هذا هو الناسخ . وكذا إن قال : هذا ناسخ ، وذكر دليله ، فإن لم يذكره واقتصر على قوله : هذا ناسخ ، أو : هذا نسخ لهذا ، لم يرجع إليه عند غير واحد من الأصوليين والفقهاء ; لاحتمال أنه قاله عن اجتهاد نشأ عن ظن ما ليس بنسخ نسخا ، لا سيما وقد اختلف العلماء في أسباب النسخ ، وهذا بناء على أن قوله رضي الله عنه ليس بحجة .

ولكن قد أطلق ابن الصلاح تبعا لأهل الحديث القول بمعرفة النسخ بقول الصحابي ، بل وأطلقه الشافعي أيضا ; حيث ذكر الأدلة الأربعة ، فقال فيما رواه البيهقي في ( المدخل ) من طريقه : ولا يستدل على الناسخ والمنسوخ إلا بخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو بوقت يدل على أن أحدهما بعد الآخر ، أو بقول من سمع الحديث ، يعني من الصحابة أو العامة ، يعني الإجماع . وهو كما قال المصنف أوضح وأشهر ; إذ النسخ لا يصار إليه بالاجتهاد والرأي ، وإنما يصار إليه عند معرفة التاريخ ، والصحابة أورع من أن يحكم أحدهم على حكم شرعي بنسخ من غير أن يعرف تأخر الناسخ عنه .

ليس من أمثلته ما يرويه الصحابي المتأخر الإسلام معارضا لمتقدم عنه بناء على الظاهر ; لتجويز سماع المتقدم بعد المتأخر .

قال شيخنا : ولاحتمال أن يكون سمعه من صحابي آخر أقدم من المتقدم المذكور أو مثله فأرسله ، لكن إن وقع التصريح بسماعه له من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فيتجه أن يكون ناسخا بشرط أن يكون لم يتحمل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا قبل إسلامه .

[ ص: 54 ] وفيه نظر للتجويز السابق قريبا . وحينئذ فطرق كون حديث شداد المرفوع : ( أفطر الحاجم والمحجوم ) منسوخا بحديث ابن عباس رضي الله عنه : ( أنه - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو صائم محرم ) ; لكون ابن عباس إنما صحبه محرما في حجة الوداع سنة عشر ، وشداد قيد حديثه في بعض طرقه ; إما بزمن الفتح كما في رواية ، وكان سنة ثمان ، وإما برمضان كما في أخرى ، وأيا ما كان فهو قبل حجة الوداع .

أما الأول فواضح ، وأما الثاني فحجة الوداع لم يكن بعدها في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - رمضان .

احتمال أن يكون ابن عباس تحمله عن غيره من الصحابة ، على أن الشافعي قال : وإسناد الحديثين جميعا مشتبه . قال : وحديث ابن عباس أمثلهما إسنادا .

( و ) أما رابعها فليس على إطلاقه في كون الإجماع ناسخا . بل العلماء من المحدثين والأصوليين إنما ( رأوا دلالة الإجماع ) على وجود ناسخ غيره ، بمعنى أن بالإجماع يستدل على وجود خبر معه يقع به النسخ ، وعليه ينزل نص الشافعي والأصحاب وسائر المطلقين ، ( لا ) أنهم رأوا ( النسخ به ) ; لأنه لا ينسخ بمجرده ; إذ لا ينعقد إلا بعد الرسول ، وبعده ارتفع النسخ ، وكذا لا ينسخ . ولذلك أمثلة كثيرة ; كنسخ رمضان صوم عاشوراء ، والزكاة وسائر الحقوق في المال ، و ( كـ ) حديث معاوية ، وجابر ، وجرير ، وشرحبيل بن أوس ، والشريد بن أوس الثقفي ، وعبد الله بن عمرو ، وغطيف ، وأبي الرمداء ، وأبي سعيد ، وأبي هريرة ، وغيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم - مرفوعا في ( القتل ) لشارب الخمر ( في ) مرة ( رابعة ) صدرت منه [ ص: 55 ] بعد شربه ثلاث مرار قبلها ، أو في مرة خامسة ، كما في بعض الروايات ( بـ ) سبب ( شربه ) ; حيث حكى الترمذي في آخر جامعه الإجماع على ترك العمل به . ونحوه قول الماوردي : قتل الشارب في الخامسة انعقد الإجماع من الصحابة على خلافه ، ولا يخدش الإجماع بما رواه أحمد والحارث بن أبي أسامة في مسنديهما من طريق الحسن البصري عن عبد الله بن عمرو أنه قال : ( ايتوني برجل أقيم عليه الحد ، يعني ثلاثا ، ثم سكر فإن لم أقتله فأنا كذاب ) .

ولا بما أخرجه سعيد بن منصور مما هو أشد من هذا عن ابن عمرو أيضا أنه قال : ( لو رأيت أحدا يشرب الخمر واستطعت أن أقتله لقتلته ) . ولا بحكاية القتل في الرابعة أيضا عن عثمان رضي الله عنه وعن عمر بن عبد العزيز والحسن البصري ، فضلا عن كون أهل الظاهر ; منهم ابن حزم ، قالوا به ; لانقطاع أولهما ; فإن الحسن لم يسمع من ابن عمرو كما جزم به ابن المديني وغيره ، وللين سند ثانيهما بحيث لا يكون فيهما حجة ، كما أنه لا حجة فيما عداهما ; لعدم ثبوته .

وأما خلاف الظاهرية فلا يقدح في الإجماع . وحينئذ فلم يبق لمن رد الإجماع على ترك القتل متمسك ، حتى ولو ثبت عن ابن عمرو أو غيره من الصحابة فمن بعدهم لكان العذر عنه أنه لم يبلغه النسخ ، وعد ذلك من ندرة الخلاف .

ولوجود الخلاف في الجملة حكى ابن المنذر إجماع عوام أهل العلم في ترك القتل في الرابعة ، واستثنى شاذا موصوفا بأنه لا يعد ، بل وقوع الخلاف قديما لا يمنع حصول الإجماع بعد ذلك كما سلف في كتابة الحديث ، وهي طريقة مشهورة كما قال البلقيني . ويؤيده قول شيخنا في ( فتح الباري ) عقب حكاية قول الترمذي : وهو محمول على [ ص: 56 ] من بعد ; لنقل غيره القول به ، وأشار لما تقدم .

وممن حكى الإجماع أيضا النووي ، وقال : القول بالقتل قول باطل مخالف لإجماع الصحابة فمن بعدهم ، والحديث الوارد فيه منسوخ ; إما بحديث : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ) . وإما بأن الإجماع دل على نسخه . انتهى .

هذا كله مع ورود ناسخ من حديثي جابر وقبيصة بن ذؤيب ، بحيث عمل بمضمونه عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص ، ولكن ليس هذا محل الإطالة بها .

قال البلقيني : ومن مثل معرفة النسخ بالإجماع الحديث الذي رواه أبو داود في سننه من حديث أم سلمة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لوهب بن زمعة ورجل آخر : ( إن هذا يوم رخص لكم إذا أنتم رميتم الجمرة أن تحلوا من كل ما حرمتم منه إلا النساء ، فإذا أمسيتم قبل أن تطوفوا هذا البيت صرتم حرما كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة حتى تطوفوا به ) . وإسناده جيد ، وإن كان فيه محمد بن إسحاق ، لكنه صرح بالتحديث .

فهذا مما أجمع العلماء على ترك العمل به وأشباه ذلك ، على أن الإمام أبا بكر الصيرفي شارح ( الرسالة ) لم يجعل الإجماع دليلا على تعين المصير للنسخ ، بل جعله مترددا بين النسخ والغلط ; فإنه قال في كتابه ( الدلائل ) : فإن أجمع على إبطال حكم أحدهما فهو منسوخ أو غلط - يعني من بعض رواته ، كما صرح به غيره - والآخر ثابت . قال المصنف : وما قاله محتمل .

التالي السابق


الخدمات العلمية