الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ مختلف الحديث وأمثلته ] ( و ) جملة الكلام فيه أنا نقول : ( المتن ) الصالح للحجة ( إن نافاه ) بحسب الظاهر ( متن آخر ) مثله ، ( وأمكن الجمع ) بينهما بوجه [ ص: 68 ] صحيح زال به التعارض ، ( فلا تنافر ) بينهما حينئذ ، بل يصار إليهما ويعمل بهما معا . وأمثلته كثيرة ، ( كمتن لا يورد ) بكسر الراء ، ( ممرض ) ، بضم أوله وسكون ثانيه وكسر ثالثه ، اسم فاعل من أمرض الرجل : إذا أصاب ماشيته مرض ، ( على مصح ) اسم فاعل أيضا من أصح : إذا أصابت ماشيته عاهة ثم ذهبت عنها وصحت . الموازي لمعنى متن : ( فر من المجذوم فرارك من الأسد ) ، ( مع ) بالسكون متن : ( لا عدوى ولا طيرة ) ، وكلها في الصحيح ، فظاهرها التنافر ، ومنافاة الأخير للأولين ، حتى بالغ أبو حفص بن شاهين وغيره ، وزعموا النسخ في الأولين ، ولكن الجمع بينهما ممكن كما قال ابن الصلاح تبعا لغيره .

( فالنفي ) في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا عدوى ) ( للطبع ) ; أي : لما كان يعتقده أهل الجاهلية وبعض الحكماء من أن هذه الأمراض من الجذام والبرص تعدي بالطبع ; ولهذا قال : ( فمن أعدى الأول ؟ ) ; أي : أن الله هو الخالق لذلك بسبب وغير سبب .

( و ) الأمر بالفرار في قوله : ( فر ) ، والنهي في : ( لا يورد ) ; لخوف من وجود المخالطة والمماسة الذي قد يخلق الله عنده - لا به - الداء في الصحيح غالبا ، وإلا فقد يتخلف كما هو المشاهد في بعض المخالطين ، بل نشاهد من يجتهد في التحرز من المخالطة والمماسة يؤخذ بذلك المرض ، إلى غير ذلك من المسالك التي سلكها الأئمة في الجمع ، أحدها - وعليه نقتصر - ما ذهب إليه أبو عبيد [ ص: 69 ] وجماعة ; كابن خزيمة والطحاوي ، واختاره شيخنا فقال في ( توضيح النخبة ) : والأولى في الجمع بينهما أن يقال : إن نفيه - صلى الله عليه وسلم - للعدوى على عمومه ، وقد صح قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يعدي شيء شيئا ) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لمن عارضه بأن البعير الأجرب يكون في الإبل الصحيحة فيخالطها فتجرب ، حيث رد عليه بقوله : ( فمن أعدى الأول ؟ ) ، يعني أن الله سبحانه وتعالى ابتدأ ذلك في الثاني كما ابتدأه في الأول . وأما الأمر بالفرار من المجذوم فمن باب سد الذرائع ; لئلا يتفق للشخص الذي يخالطه شيء من ذلك بتقدير الله تعالى ابتداء ، لا بالعدوى المنفية ، فيظن أن ذلك بسبب مخالطته ، فيعتقد صحة العدوى ، فيقع في الحرج ، فأمر بتجنبه حسما للمادة .

وعبارة أبي عبيد : ليس في قوله : ( لا يورد ممرض على مصح ) إثبات العدوى ; بل لأن الصحاح لو مرضت بتقدير الله تعالى ربما وقع في نفس صاحبها أن ذلك من العدوى فيفتتن ويتشكك في ذلك ، فأمر باجتنابه . قال : وكان بعض الناس يذهب إلى أن الأمر بالاجتناب إنما هو للمخافة على الصحيحة من ذوات العاهة . قال : وهذا شر ما حمل عليه الحديث ; لأن فيه إثبات العدوى التي نفاها الشارع ، ولكن وجه الحديث عندي ما ذكرته .

( أو لا ) ; أي : وإن لم يمكن الجمع بين المتنين المختلفين واستمر التنافي على ظاهره ، وذلك على ضربين ، ( فإن نسخ بدا ) ; أي : ظهر طريق من الطرق المشروحة في بابه ، ( فاعمل به ) ; أي : بمقتضاه في الاحتجاج وغيره . ( أو لا ) ; أي : وإن لم يبد نسخ ، ( فرجح ) أحد المتنين بوجه من وجوه الترجيحات التي تتعلق بالمتن أو بالإسناد ; كالترجيح بكثرة الرواة أو بصفاتهم . وقد سرد منها الحازمي في كتابه ( الناسخ والمنسوخ ) خمسين مع [ ص: 70 ] إشارته إلى زيادتها على ذلك . وهو كذلك ; فقد زادها الأصوليون في باب معقود لها أكثر من خمسين أيضا ، أورد جميعها المؤلف في النكت على ابن الصلاح ، فلا نطيل بإيرادها .

( واعملن ) بنون التوكيد الخفيفة بعد النظر في المرجحات ( بالأشبه ) ; أي : بالأرجح منهما ، وإن لم يجد المجتهد مرجحا توقف عن العمل بأحد المتنين حتى يظهر . وقيل : يهجم فيفتي بواحد منهما ، أو يفتي بهذا في وقت ، وبهذا في آخر ، كما يفعل أحمد ، وذلك غالبا سبب اختلاف روايات أصحابه عنه .

قال شيخنا : فصار ما ظاهره التعارض واقعا على هذا الترتيب : الجمع إن أمكن ، فاعتبار الناسخ والمنسوخ ، فالترجيح إن تعين ، ثم التوقف عن العمل بأحد الحديثين . والتعبير بالتوقف أولى من التعبير بالتساقط ; لأن خفاء ترجيح أحدهما على الآخر إنما هو بالنسبة للمعتبر في الحالة الراهنة ، مع احتمال أن يظهر لغيره ما خفي عليه ، وفوق كل ذي علم عليم . وإذا لم يكن للمتن ما ينافيه ، بل سلم من مجيء خبر يضاده فهو المحكم ، وأمثلته كثيرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية