الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 167 ] قالوا حديثان متناقضان .

        10 - العدوى والطيرة .

        قالوا : رويتم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لا عدوى ولا طيرة وأنه قيل له : إن النقبة تقع بمشفر البعير فتجرب لذلك الإبل ، فقال : فما أعدى الأول قال هذا أو معناه .

        ثم رويتم في خلاف ذلك : لا يوردن ذو عاهة على مصح و فر من المجذوم فرارك من الأسد وأتاه رجل مجذوم ليبايعه بيعة الإسلام فأرسل إليه بالبيعة وأمره بالانصراف ولم يأذن له عليه ، وقال : الشؤم في المرأة والدار والدابة قالوا : وهذا كله مختلف لا يشبه بعضه بعضا .

        [ ص: 168 ] قال أبو محمد : ونحن نقول : إنه ليس في هذا اختلاف ، ولكل معنى منها وقت وموضع ، فإذا وضع بموضعه زال الاختلاف .

        والعدوى جنسان : أحدهما عدوى الجذام ، فإن المجذوم تشتد رائحته حتى يسقم من أطال مجالسته ومؤاكلته ، وكذلك المرأة تكون تحت المجذوم فتضاجعه في شعار واحد ، فيوصل إليها الأذى ، وربما جذمت ، وكذلك ولده ينزعون في الكثير إليه .

        وكذلك من كان به سل ودق ونقب ، والأطباء تأمر بأن لا يجالس المسلول ولا المجذوم لا يريدون بذلك معنى العدوى ، إنما يريدون به تغير الرائحة وأنها قد تسقم من أطال اشتمامها ، والأطباء أبعد الناس من الإيمان بيمن أو شؤم ، وكذلك النقبة تكون بالبعير ، وهي جرب رطب ، فإذا خالطها الإبل وحاكها وأوى في مباركها ، أوصل إليها بالماء الذي يسيل منه والنطف ، نحوا مما به .

        وهذا هو المعنى الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يوردن ذو عاهة على مصح كره أن يخالط المعيوه الصحيح فيناله من نطفه وحكته ، نحو مما به .

        [ ص: 169 ] وقد ذهب قوم إلى أنه أراد بذلك أن لا يظن أن الذي نال إبله من ذوات العاهة فيأثم ، قال : وليس لهذا عندي وجه لأنا نجد الذي أخبرتك به عيانا . وأما الجنس الآخر من العدوى فهو الطاعون ينزل ببلد ، فيخرج منه خوفا من العدوى .

        قال أبو محمد : حدثني سهل بن محمد قال حدثنا الأصمعي عن بعض البصريين : أنه هرب من الطاعون فركب حمارا ومضى بأهله نحو سفوان ، وسمع حاديا يحدو خلفه وهو يقول :


        لن يسبق الله على حمار ولا على ذي ميعة مطار     أو يأتي الحتف على مقدار
        قد يصبح الله أمام الساري

        وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان بالبلد الذي أنتم به فلا تخرجوا منه وقال أيضا إذا كان ببلد فلا تدخلوه يريد بقوله : لا تخرجوا من البلد إذا كان فيه ، كأنكم تظنون أن الفرار من قدر الله تعالى ينجيكم من الله ، ويريد بقوله : وإذا كان ببلد فلا تدخلوه أن مقامكم بالموضع الذي لا طاعون فيه أسكن لأنفسكم وأطيب لعيشكم .

        ومن ذلك تعرف المرأة بالشؤم أو الدار فينال الرجل مكروه أو جائحة فيقول : أعدتني بشؤمها ، فهذا هو العدوى الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا عدوى .

        [ ص: 170 ] وأما الحديث الذي رواه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال الشؤم في المرأة والدار والدابة فإن هذا حديث يتوهم فيه الغلط على أبي هريرة وأنه سمع فيه شيئا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يعه .

        قال أبو محمد : حدثني محمد بن يحيى القطعي قال حدثنا عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن أبي حسان الأعرج أن رجلين دخلا على عائشة - رضي الله عنها - فقالا : إن أبا هريرة يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار " ، فطارت شفقا ثم قالت : كذب والذي أنزل القرآن على أبي القاسم ، من حدث بهذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أهل الجاهلية يقولون إن الطيرة في الدابة والمرأة والدار ثم قرأت ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها .

        وحدثني أحمد بن الخليل قال حدثنا موسى بن مسعود النهدي عن عكرمة بن عمار عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال : جاء رجل منا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله إنا نزلنا دارا فكثر فيها عددنا وكثرت فيها أموالنا ثم تحولنا عنها إلى أخرى ، فقلت فيها أموالنا وقل فيها عددنا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ارحلوا عنها وذروها وهي ذميمة .

        قال أبو محمد : وليس هذا بنقض للحديث الأول ولا الحديث الأول بنقض لهذا ، وإنما أمرهم بالتحول منها لأنهم كانوا مقيمين فيها على استثقال [ ص: 171 ] لظلها واستيحاش بما نالهم فيها فأمرهم بالتحول ، وقد جعل الله تعالى في غرائز الناس وتركيبهم استثقال ما نالهم السوء فيه وإن كان لا سبب له في ذلك ، وحب من جرى على يده الخير لهم وإن لم يردهم به ، وبغض من جرى على يده الشر لهم وإن لم يردهم به . وكيف يتطير - صلى الله عليه وسلم - والطيرة من الجبت .

        وكان كثير من أهل الجاهلية لا يرونها شيئا ويمدحون من كذب بها ، قال الشاعر يمدح رجلا :

        وليس بهياب إذا شد رحله     يقول عداني اليوم واق وحاتم
        ولكنه يمضي على ذاك مقدما     إذا صد عن تلك الهنات الخثارم
        قال أبو محمد : الخثارم : هو الذي يتطير والواق الصرد والحاتم الغراب .

        وقال المرقش :


        ولقد غدوت وكنت لا     أغدو على واق وحاتم
        فإذا الأشائم كالأيامن     والأيامن كالأشائم
        وكذاك لا خير ولا     شر على أحد بدائم

        وحدثنا إسحاق بن راهويه ، قال : أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة لا يسلم منهن أحد : الطيرة والظن والحسد ، [ ص: 172 ] قيل : فما المخرج منهن ؟ قال : إذا تطيرت فلا ترجع ، وإذا ظننت فلا تحقق ، وإذا حسدت فلا تبغ هذه الألفاظ أو نحوها .

        وحدثني أبو حاتم قال حدثنا الأصمعي عن سعيد بن مسلم عن أبيه أنه كان يعجب ممن يصدق بالطيرة ، ويعيبها أشد العيب . وقال فرقت لنا ناقة ، وأنا بالطف ، فركبت في أثرها فلقيني هانئ بن عبيد من بني وائل وهو مسرع يقول

        والشر يلفى مطالع الأكم

        ثم لقيني رجل آخر من الحي فقال :

        ولئن بغيت لنا بغاة     ما البغاة بواجدينا
        ثم دفعنا إلى غلام قد وقع في صغره في نار فأحرقته فقبح وجهه وفسد ، فقلت له هل ذكرت من ناقة فارق ؟ قال هاهنا أهل بيت من الأعراب ، فانظر فنظرت فإذا هي عندهم وقد أنتجت فأخذتها وولدها .

        قال أبو محمد : الفارق التي قد حملت ففارقت صواحبها .

        وقال عكرمة : كنا جلوسا عند ابن عباس فمر طائر يصيح ، فقال رجل من القوم : " خير خير " ، فقال ابن عباس لا خير ولا شر ، و كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستحب الاسم الحسن ، والفأل الصالح .

        [ ص: 173 ] وحدثني الرياشي قال حدثنا الأصمعي ، قال : سألت ابن عون عن الفأل ، فقال : هو أن يكون مريضا فيسمع " يا سالم " ، أو يكون باغيا فيسمع " يا واجد " .

        قال أبو محمد : وهذا أيضا مما جعل في غرائز الناس استحبابه والأنس به ، كما جعل على ألسنتهم من التحية بالسلام ، والمد في الأمنية ، والتبشير بالخير ، وكما يقال : " انعم واسلم " ، و " انعم صباحا " ، وكما تقول الفرس : " عش ألف نيروز " ، والسامع لهذا يعلم أنه لا يقدم ولا يؤخر ، ولا يزيد ولا ينقص ، ولكن جعل في الطباع محبة الخير والارتياح للبشرى ، والمنظر الأنيق والوجه الحسن ، والاسم الخفيف .

        وقد يمر الرجل بالروضة المنورة فتسره وهي لا تنفعه وبالماء الصافي فيعجب به وهو لا يشربه ولا يورده ، وفي بعض الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعجب بالأترج ويعجبه الحمام الأحمر وتعجبه الفاغية وهي نور الحناء .

        وهذا مثل إعجابه بالاسم الحسن والفأل الحسن ، وعلى مثل هذا كانت كراهته للاسم القبيح ، كـ " بني النار " و " بني حراق " و " بني زنية " و " بني حزن " وأشباه هذا .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية