الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  صفحة جزء
                                                                  ( 144 ) حدثنا عمرو بن أبي الطاهر بن السرح المصري ، وزكريا بن يحيى الساجي ، قالا : ثنا محمد بن عزيز الأيلي ، ثنا سلامة بن روح ، حدثني عقيل بن خالد ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني سعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن حديث عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أهل الإفك ما قالوا ، فبرأها الله ، وكل حدثني طائفة من الحديث الذي حدثني عن عائشة وبعض حديثهم يصدق بعضا ، وإن كان بعضهم أوعى له من بعض ، زعموا أن عائشة - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - - قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يخرج إلى سفر أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله معه ، قالت عائشة : فأقرع بيننا في غزوة غزاها ، فخرج بها سهمي ، فخرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدما أنزل الحجاب ، فأنا أحمل وأنزل في هودجي ، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله من غزوته تلك ، ودنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذن بالرحيل لحاجتي ، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي ، فإذا عقد لي من جزع [ ص: 93 ] أظفار قد انقطع فرجعت إلى عقدي نحو ابتغائه ، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه ، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلهن اللحم ، إنما يأكلن العلقة من الطعام ، فلم ينكر القوم خفة الهودج ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل وساروا ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب ، فتيممت منزلي الذي كنت فيه ، وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي ، فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني ، فنمت ، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي ، فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني ، وكان يراني قبل أن ينزل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي ، فما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته ، فوطئ على يدها فركبتها ، فانطلق بي يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا ، فهلك من هلك وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي بن سلول ، فقدمنا المدينة فاشتكيت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ، لا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني في وجعي ، أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي إنما يدخل علي رسول الله فيقول : " كيف تيكم ؟ " ، ثم ينصرف فذلك يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعدما أفقت وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع ، وهو متبرزنا ، وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل ، وذلك قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه قبل الغائط ، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا ، فانطلقت أنا وأم [ ص: 94 ] مسطح وهي بنت أبي رهم بن عبد مناف ، وأمها أم صخر بنت عامر ، خالة أبي بكر الصديق ، وابنها مسطح بن أثاثة بن المطلب ، فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسطح في مرطها ، فقالت : تعس مسطح ، فقلت لها : بئس ما قلت تسبين رجلا قد شهد بدرا ؟ ، قالت : يا هنتاه أو لم تسمعي ما قال ؟ ، قلت : وما قال ؟ ، فأخبرتني بقول أهل الإفك ، فازددت مرضا على مرضي ، فلما رجعنا إلى بيتي دخل علينا رسول الله ، ثم قال : " كيف تيكم ؟ " ، قلت له : أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما ، قالت : فأذن لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فجئت لأمي فقلت : يا أمتاه ما يتحدث الناس ؟ ، فقالت : يا بنية هوني عليك ، فوالله لقل ما كانت امرأة وضيئة عند من يحبها لها ضرائر إلا أكثرن عليها ، قالت : فقلت : سبحان الله ، وقد تحدث الناس بهذا ؟ ، فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، قالت : ثم أصبحت أبكي ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي فشاورهما في فراق أهله ، فأما أسامة فأشار على رسول الله بالذي يعلم من براءة أهله ، وبالذي كان في نفسه لهم من الود ، فقال أسامة : أهلك يا رسول الله ، لا نعلم إلا خيرا ، وأما علي بن أبي طالب فقال : يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء ، سواها كثير ، وإن تسأل الخادم تصدقك ، قالت : فدعا رسول الله بريرة ، فقال لها : " أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك ؟ " ، قالت بريرة : والذي بعثك بالحق ما رأيت منها أمرا أغمصه عليها ، أكثر من أنها جارية حديثة السن ، تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله ، فقام رسول الله صلى الله عليه [ ص: 95 ] وسلم يومئذ فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول ، فقال رسول الله وهو على المنبر : " يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهل بيتي ، ووالله ما علمت من أهلي إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي " ، فقام سعد بن معاذ الأنصاري ، فقال : يا رسول الله أنا أعذرك منه ، إن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك ، فقام سعد بن عبادة وهو يومئذ سيد الخزرج ، وكان من قبل ذلك رجلا صالحا ، ولكن حملته الحمية ، فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمر الله لا تقتله ، ولا تقدر على قتله ، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ ، فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله ليقتلنه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين ، قالت : فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ، ورسول الله يخفضهم حتى سكتوا وسكت ، قالت : فلبثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، قالت : فأصبح أبواي عندي ، وقد بكيت ليلتي لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، يظنان أن البكاء فالق كبدي ، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي ، فاستأذنت امرأة من الأنصار ، فأذنت لها ، فجلست تبكي معي ، فبينا نحن على ذلك دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلس ، قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل قبلها ، ولقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شيء ، قالت : فتشهد رسول الله حين جلس ، ثم قال : " أما بعد يا عائشة ، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه " ، قالت : فلما قضى رسول الله مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة ، فقلت لأبي : أجب [ ص: 96 ] رسول الله فيما قال ، فقال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ، قالت : فقلت لأمي : أجيبي رسول الله فيما قال ، فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ، فقلت وأنا جارية حديثة السن ، لا أقرأ كثيرا من القرآن : إني والله لقد علمت لقد سمعتم بهذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به ، ولئن قلت لكم إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدقوني ، ولئن اعترفت لكم أني بريئة والله يعلم أني منه بريئة لتصدقنني ، وإني والله ما أعلم لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف ، قال : فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ، قالت : ثم تحولت فاضطجعت على فراشي وأنا أعلم حينئذ أني بريئة ، وأن الله سيبرئني ببراءتي ، ولكن والله ما كنت أظن أن الله ينزل في شأني وحيا يتلى ، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله في النوم رؤيا يبرئني الله بها ، قالت : فوالله ما رام رسول الله ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل الله عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء ، حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القرآن الذي ينزل عليه ، قالت : فسري عن رسول الله وهو يضحك ، فكان أول كلمة تكلم بها : " أما الله فقد برأك " ، فقالت لي أمي : قومي إلى رسول الله ، فقلت : والله إني لا أقوم ولا أحمد إلا الله ، فأنزل الله : إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم - العشر الآيات كلها - ، فلما أنزل الله هذا في براءتي ، قال أبو بكر الصديق وهو ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره : والله لا أنفق على مسطح شيئا بعد الذي قال لعائشة ، فأنزل الله : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة إلى قوله : والله غفور رحيم ، فقال أبو بكر : بلى ، والله إني [ ص: 97 ] أحب أن يغفر الله لي ، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه ، وقال : والله لا أنزعها عنه أبدا ، قالت عائشة : وكان رسول الله يسأل زينب بنت جحش - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - - ، عن أمري ، فقال : " يا زينب ماذا علمت أو رأيت ؟ " ، قالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت إلا خيرا ، قالت : وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فعصمها الله بالورع ، وطفقت أختها تحارب ، فأهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك .

                                                                  قال الزهري : فهذا ما انتهى إلينا من خبر هؤلاء الرهط من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها .

                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية