الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  صفحة جزء
                                                                  ( 151 ) حدثنا علي بن المبارك الصنعاني ، وعبيد الله بن محمد العمري ، قالا : ثنا إسماعيل بن أبي أويس ، قال : ثنا أبي ، قال : ثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة بنت أبي بكر الصديق ، قال : أبو أويس ، وحدثني أيضا عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري النجاري ، عن عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية ثم النجارية ، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قالت : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يسافر سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه فخرج سهم عائشة في غزوة النبي - صلى الله عليه وسلم - بني المصطلق من خزاعة ، فلما انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان قريبا من المدينة ، وكانت عائشة جويرية حديثة السن قليلة اللحم خفيفة ، وكانت تلزم خدرها ، فإذا أراد الناس الرحيل ذهبت فتوضأت ورجعت فدخلت محفتها فيرحل بعيرها ثم يحمل محفتها فتوضع على البعير ، فكان أول ما قال فيها المنافقون وغيرهم ممن أشرك في عائشة أنها خرجت تتوضأ حين دنوا من المدينة ، فانسل من عنقها عقد لها من جزع أظفار ، فارتحل النبي - صلى الله عليه وسلم - والناس وهي في ابتغاء العقد ولم تعلم برحيلهم ، فشدوا على بعيرها المحفة وهم يرون أنها فيها كما كانت ، فرجعت عائشة إلى منزلها فلم تجد في العسكر أحدا فغلبتها عيناها ، وكان صفوان بن المعطل [ ص: 112 ] السلمي صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - تخلف تلك الليلة عن العسكر حتى أصبح ، قالت : فمر بي فرآني فاسترجع ، وأعظم مكاني حين رآني وحدي ، وقد كنت أعرفه ويعرفني قبل أن يضرب علينا الحجاب ، قالت : فسألني عن أمري فسترت وجهي عنه بجلبابي ، وأخبرته بأمري فقرب بعيره ، فوطئ على ذراعه ، وولاني قفاه حتى ركبت وسويت ثيابي ، ثم بعثه فأقبل يسير بي حتى دخلنا المدينة نصف النهار أو نحوه ، فهنالك قال في وفيه من قال من أهل الإفك ، وأنا لا أعلم شيئا من ذلك ، ولا مما يخوض الناس فيه من أمري ، وكنت تلك الليالي شاكية ، وكان من أول ما أنكرت من أمر النبي - عليه السلام - أنه كان يعودني قبل ذلك إذا مرضت ، وكان تلك الليالي لا يدخل علي ولا يعودني ، إلا أنه يقول وهو مار : " كيف تيكم ؟ " ، فيسأل عني بعض أهل البيت ، فلما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أكثر الناس فيه من أمري غمه ذلك وقد كنت شكوت قبل ذلك إلى أمي ما رأيت من النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجفوة ، فقالت لي : يا بنية اصبري فوالله لقل ما كانت امرأة حسناء يحبها زوجها ، لها ضرائر إلا رمينها ، قالت : فوجدت حسا تلك الليلة التي بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - من صبحها إلى علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد ، فاستشارهما في أمري وكنا ذلك الزمان ليست لنا كنف نذهب فيها ، إنما كنا نذهب كما يذهب العرب ليلا إلى ليل ، فقلت لأم مسطح بن أثاثة : خذي الإداوة فاملئيها ماء فاذهبي بها إلى المناصع ، وكانت هي وابنها مسطح بينهما وبين أبي بكر قرابة ، وكان أبو بكر ينفق عليهما ، فكان يكونان معه ومع أهله ، فأخذت الإداوة وخرجنا نحو المناصع ، فعثرت أم مسطح ، فقالت : تعس مسطح ، فقلت لها : بئس ما قلت ، قالت : ثم مشينا فعثرت أيضا ، فقالت : تعس مسطح ، فقلت لها : بئس ما قلت لصاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وصاحب [ ص: 113 ] بدر ، فقالت : إنك لغافلة عما فيه الناس من أمرك ، قلت : أجل فما ذاك ؟ ، فقالت : إن مسطحا وفلانا وفلانة فيمن استزلهم الشيطان من المنافقين يجتمعون في بيت عبد الله بن أبي ابن سلول أخي بني الحارث بن الخزرج يتحدثون عنك ، وعن صفوان بن المعطل ويرمونك به ، قالت : فذهب عني ما كنت أجد من الغائط ، ورجعت عودي على بدئي إلى بيتي ، فلما أصبحنا من تلك الليلة بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد فأخبرهما بما قيل في ، واستشارهما في أمري ، فقال أسامة : والله يا رسول الله ما علمنا على أهلك سوءا ، وقال له علي : يا رسول الله ، ما أكثر النساء ، وإن أردت أن تعلم الخبر فتوعد الجارية - يعني بريرة - ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي : " فشأنك ائت الخادم " ، فسألها علي عني فلم تخبره ، والحمد لله إلا بخير ، قالت : والله ما علمت على عائشة سوءا إلا أنها جويرية تصبح عن عجين أهلها ، فتدخل الشاة الداجن فتأكل من العجين ، قالت : ثم خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - حين سمع ما قالت في بريرة لعلي إلى الناس ، فلما اجتمعوا إليه ، قال : " يا معشر المسلمين من لي من رجال يؤذوني في أهلي فما علمت على أهلي سوءا ، ويذمون رجلا من أصحابي ما علمت عليه سوءا ، ولا خرجت مخرجا إلا خرج معي فيه " ، فقال سعد بن معاذ الأنصاري ثم الأشهلي من الأوس : يا رسول الله إن كان ذلك في أحد من الأوس كفيناكه ، وإن كان من الخزرج أمرتنا فيه أمرك ، فقام سعد بن عبادة الأنصاري ثم الخزرجي ، فقال لسعد بن معاذ : كذبت والله وهذا الباطل ، فقام أسيد بن حضير الأنصاري ثم الأشهلي ، ورجال من الفريقين فاستبوا وتنازعوا حتى كاد أن يعظم الأمر بينهم ، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - بيتي ، وبعث إلى أبوي ، [ ص: 114 ] فأتياه فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال لي : " يا عائشة إنما أنت من بنات آدم ، فإن كنت أخطأت فتوبي إلى الله واستغفريه " ، فقلت لأبي : أجب عني رسول الله ، فقال لي أبي : لا أفعل ، هو نبي الله والوحي يأتيه ، فقلت لأمي : أجيبي عني رسول الله ، فقالت لي كما قال أبي ، فقلت : والله لئن أقررت على نفسي بباطل لتصدقنني ، ولئن برأت نفسي والله يعلم أني بريئة لتكذبنني ، فما أجد لي ولكم مثلا إلا قول أبي يوسف فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ، ونسيت اسم يعقوب لما بي من الحزن والبكاء واحتراق الجوف ، فتغشى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان يتغشاه من الوحي ، ثم سري عنه فمسح وجهه بيده ، ثم قال لي : " أبشري يا عائشة ، فقد أنزل الله براءتك " ، قالت عائشة : والله ما كنت أظن أن ينزل القرآن في أمري ، ولكني كنت أرجو كما يعلم الله من براءتي ، أن يرى النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمري رؤيا فيبرئني الله بها عند نبيه عليه السلام ، فقال لي أبواي عند ذلك : قومي فقبلي رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقلت : والله لا أفعل بحمد الله كان لا بحمدكم ، قالت : وكان أبو بكر ينفق على مسطح وأمه فلما رماني حلف أبو بكر أن لا ينفعه بشيء أبدا ، قالت : فلما تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قول الله تبارك وتعالى وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم ، بكى أبو بكر فقال : بلى يا رب ، وعاد للنفقة على مسطح وأمه ، قالت : وقعد صفوان بن المعطل لحسان بن ثابت بالسيف فضربه ضربة ، فقال صفوان لحسان في الشعر حين ضربه :


                                                                  تلق ذباب السيف مني فإنني غلام إذا هوجيت ليس بشاعر     ولكنني أحمي حماي وأنتقم
                                                                  من الباهت الرامي البراة الطواهر

                                                                  [ ص: 115 ] ثم صاح حسان فاستغاث الناس على صفوان ، فلما جاء الناس فر صفوان فجاء حسان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستعداه على صفوان في ضربته إياه ، فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يهب له ضربة صفوان إياه ، فوهبها للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فعاضه منها حائطا من نخل عظيم وجارية رومية ويقال قبطية تدعى سيرين ، فولدت لحسان ابنه عبد الرحمن الشاعر .

                                                                  قال أبو أويس : أخبرني بذلك حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قالت عائشة : ثم باع حسان ذلك الحائط من معاوية بن أبي سفيان في ولايته بمال عظيم ، قالت عائشة : فبلغني والله أعلم أن الذي قال الله تبارك وتعالى فيه والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ، أنه عبد الله بن أبي بن سلول أحد بني الحارث بن الخزرج ، قالت عائشة : فقيل في أصحاب الإفك الأشعار ، وقال أبو بكر لمسطح في رميه عائشة فكان يدعى عوفا :


                                                                  يا عوف ويحك هلا قلت عارفة     من الكلام ولم تبغ به طمعا
                                                                  فأدركتك حميا معشر أنف     فلم يكن قاطع يا عوف من قطعا
                                                                  هلا حربت من الأقوام إذ حسدوا     فلا تقول وإن عاديتهم قذعا
                                                                  لما رميت حصانا غير مقرفة     أمينة الجيب لم يعلم لها خضعا
                                                                  فيمن رماها وكنتم معشرا إفكا     في سيئ القول من لفظ الخنا شرعا
                                                                  فأنزل الله عذرا في براءتها     وبين عوف وبين الله ما صنعا
                                                                  فإن أعش أجب عوفا في مقالته     سوء الجزاء بما ألفيته تبعا

                                                                  وقالت أم سعد بن معاذ في الذين رموا عائشة من الشعر :

                                                                  شهد الأوس كلها وفناؤها     والخماسي من نسلها والنطيم
                                                                  [ ص: 116 ] ونساء الخزرجين يشهدن     بحق وذلكم معلوم
                                                                  أن ابنة الصديق كانت حصانا     عفة الجيب دينها مستقيم
                                                                  تتقي الله في المغيب عليها     نعمة الله سترها ما يريم
                                                                  خير هدي النساء حالا ونفسا     وأبا للعلى نماها كريم
                                                                  للموالي إذ رموها بإفك     أخذتهم مقامع وجحيم
                                                                  ليت من كان قد رماها بسوء     في حطام حتى يبول اللئيم
                                                                  وعوان من الحروب تلظى     نفسا قوتها عقار صريم
                                                                  ليت سعدا ومن رماها بسوء     في كظاظ حتى يتوب الظلوم

                                                                  وقال حسان وهو يبرئ عائشة - رضي الله تعالى عنها - فيما قيل فيها ويعتذر إليها :


                                                                  حصان رزان ما تزن بريبة     وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
                                                                  خليلة خير الناس دينا ومنصبا     نبي الهدى والمكرمات الفواضل
                                                                  عقيلة حي من لؤي بن غالب     كرام المساعي مجدها غير زائل
                                                                  مهذبة قد طيب الله خيمها     فطهرها من كل سوء وباطل
                                                                  فإن كان ما قد جاء عني قلته     فلا رفعت سوطي إلي أناملي
                                                                  وإن الذي قد قيل ليس بلائط     بك الدهر بل قول امرئ غير ماحل
                                                                  وكيف وودي ما حييت ونصرتي     لآل رسول الله زين المحافل
                                                                  له رتب عال على الناس فضلها     تقاصر عنها سورة المتطاول

                                                                  قال أبو أويس : وحدثني أبي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالذين رموا عائشة فجلدوا الحد جميعا ثمانين ثمانين .

                                                                  وقال حسان بن ثابت في الشعر حين جلدوا :

                                                                  [ ص: 117 ]

                                                                  لقد كان عبد الله ما كان أهله     وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح
                                                                  تعاطوا برجم القول زوج نبيهم     وسخطه ذي العرش الكريم فأترحوا
                                                                  فآذ‍وا رسول الله فيها وعمموا     مخازي سوء حللوها وفضحوا .



                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية