الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  صفحة جزء
                                                                  ما روى ابن عباس عن سلمان رضي الله عنه

                                                                  6065 - حدثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي ، ثنا عبد الملك بن هشام السدوسي ، ثنا زياد بن عبد الله البكائي ، ( ح ) . وحدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، ثنا محمد بن عبد الله بن نمير ، ثنا يونس بن بكير ، ( ح ) وحدثنا الحسن بن العباس الرازي ، ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة كلهم ، عن محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، عن عبد الله بن عباس ، حدثني سلمان حديثه من فيه ، قال : كنت رجلا فارسيا من أهل أصبهان من قرية يقال لها : جي ، وكان أبي دهقان قريته ، وكنت أحب خلق الله إليه ، فلم يزل بي حبه إياي ، حتى حبسني في بيته كما تحبس الجارية ، فاجتهدت في المجوسية ، حتى كنت قاطن النار ، أوقدها لا أتركها تخبو ساعة واحدة ، وكانت لأبي ضيعة عظيمة ، فشغل يوما ، فقال لي : يا بني ، إني قد شغلت هذا اليوم عن ضيعتي ، فاذهب إليها فطالعها ، فأمره فيها ببعض ما يريد ، ثم قال لي : لا تحتبس علي ، فإنك إن احتبست علي كنت أهم علي من ضيعتي وشغلتني عن كل شيء من أمري ، فخرجت أريد ضيعته أسير إليها ، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى فسمعت أصواتهم فيها ، وهم يصلون ، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته ، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ما يصنعون ، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ، ورغبت في دينهم ، وقلت : هذا والله خير من [ ص: 223 ] الدين الذي نحن عليه ، فما برحت من عندهم حتى غربت الشمس ، وتركت ضيعة أبي ، ثم قلت لهم : من أبصركم بهذا الدين ؟ قالوا : رجل بالشام ، ثم رجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي ، وقد شغلته عن عمله ، قال أبي : بني ، أين كنت ؟ ألم أعهد إليك ما عهدت ؟ قلت : إني مررت بناس يصلون في كنيسة لهم ، فدخلت إليهم ، فما زلت عندهم وهم يصلون حتى غربت الشمس ، قال : أي بني ، ليس في ذلك الدين خير ، دينك ودين آبائك خير منه ، ثم حبسني في بيته ، وبعثت إلى النصراني ، فقلت : إذا قدم إليكم ركب من الشام ، فأخبروني بهم ، فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى ، فأخبروني بهم ، فقلت لهم : إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم ، فألقيت الحديد من رجلي ، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام ، فلما قدمتها قلت : من أفضل أهل هذا الدين علما ؟ قالوا : الأسقف في الكنيسة ، فجئته فقلت : إني قد رغبت في هذا الدين ، فأحببت أن أكون معك أخدمك في كنيستك ، وأتعلم منك ، وأصلي معك ، قال : فادخل ، فدخلت معه ، وكان رجل سوء يأمر بالصدقة ويرغبهم فيها ، فإذا جمعوا به إليه شيئا منها اكتنزه لنفسه ، فلم يعط إنسانا منها شيئا ، حتى جمع قلالا من ذهب وورق ، فأبغضته بغضا شديدا ، لما رأيته يصنع ، ثم مات واجتمعت إليه النصارى ليدفنوه ، فقلت لهم : إن هذا كان رجل سوء يأمركم بالصدقة ، ويرغبكم فيها ، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ، ولم يعط المساكين منها شيئا ، قالوا : وما علمك بذلك ؟ قلت لهم : فأنا أدلكم على كنزه ، قالوا : فدلنا عليه ، فدللتهم عليه فاستخرجوا ذهبا وورقا فلما رأوها قالوا : والله لا ندفنه أبدا ، فصلبوه ، ثم رجموه بالحجارة ، وكان ثم رجل آخر فجعلوه مكانه ، قال : يقول سلمان : فما رأيت رجلا لا يصلي الخمس أفضل منه ، أزهد في الدنيا ، ولا أرغب في الآخرة ، ولا أدأب ليلا ونهارا منه ، فأحببته حبا لم أحبه شيئا قط ، فما زلت معه زمانا ثم حضرته الوفاة ، فقلت له : يا فلان ، [ ص: 224 ] إني قد كنت معك فأحببتك حبا لم أحبه شيئا قط ، وقد حضرك ما ترى من أمر الله عز وجل ، فإلى من توصي بي ، وما تأمرني ؟ ، قال : أي بني ، والله ما أعلم أحدا على ما كنت عليه ، لقد هلك الناس وبدلوا وتركوا كثيرا مما كانوا عليه ، إلا رجلا بالموصل وهو فلان ، وهو على ما كنت عليه ، فالحق به ، فلما مات وغيب لحقت بصاحب الموصل ، فقلت له : يا فلان ، إن فلانا أوصاني عند موته أن ألحق بك ، وأخبرني أنك على أمره ، قال : فأقم عندي ، فأقمت عنده ، فوجدته خير رجل على أمر صاحبه ، فلم ألبث أن مات ، فلما حضرته الوفاة ، قلت له : يا فلان ، إن فلانا أوصاني إليك ، وأمرني أن ألحق بك ، وقد حضر من أمر الله ما ترى ، فإلى من توصي بي ، وما تأمرني ؟ قال : يا بني ، ما أعلم بقي أحد آمرك أن تأتيه إلا رجلا بعمورية بأرض الروم على مثل ما نحن عليه ، فلما مات وغيب لحقت بصاحب عمورية فأخبرته خبري ، فقال : أقم عندي ، فأقمت عند خير رجل على هدي أصحابه وأمرهم ، واكتسبت حتى كانت عندي بقيرات وغنيمة ، ثم نزل به أمر الله عز وجل ، فلما حضر قلت له : يا فلان ، إني كنت مع فلان فأوصاني إلى فلان ، ثم أوصى فلان إلى فلان ، ثم أوصاني فلان إليك ، فإلى من توصي بي ، وإلى من تأمرني ؟ قال : والله ما أعلم أصبح على مثل ما نحن فيه أحد من الناس آمرك أن تأتيه ، ولكن أظلك زمان نبي هو مبعوث بدين إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، يخرج بأرض العرب إلى أرض - أظنه قال - ذات نخل به علامات لا تخفى ، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة ، بين كتفيه خاتم النبوة ، فإن استطعت أن تلحق بذلك البلاد فافعل ، ثم مات وغيب ، فمكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث ، مر بي نفر من كلب تجار ، فقلت لهم : تحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقراتي هذه وغنيمتي هذه ؟ قالوا : نعم ، فأعطيتهم وحملوني معهم حتى إذا قدموا وادي القرى ظلموني ، فباعوني من رجل يهودي ، فكنت عنده فرأيت النخل ، فرجوت البلد الذي وصف لي صاحبي ، ولم يحق في نفسي ، [ ص: 225 ] فبينا أنا عنده قدم عليه ابن عم له من بني قريظة ، وابتاعني منه ، فحملني إلى المدينة فوالله ما هو إلا أن رأيتها عرفتها بصفة صاحبي ، فأقمت بها ، فبعث الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأقام بمكة ما أقام ما أسمع له بذكر ، مع ما أنا فيه من شغل الرق ، ثم هاجر إلى المدينة فوالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل فيه بعض العمل ، وسيدي جالس تحتي إذ أقبل ابن عم له حتى وقف عليه ، فقال : قاتل الله بني فيلة ، والله إنهم ليجتمعون على رجل قدم عليهم من مكة اليوم ، يزعمون أنه نبي ، فلما سمعتها أخذني الفرح ، حتى ظننت أني سأسقط على سيدي ، ونزلت عن النخلة ، وجعلت أقول لابن عمه ذلك : ماذا يقول ؟ فغضب سيدي ، فلطمني لطمة شديدة ، ثم قال : ما لك ولهذا ؟ أقبل على عملك ، قلت : لا شيء ، إنما أردت أن أستفتيه عما قال ، وقد كان عندي شيء قد جمعته ، فلما أمسيت أخذته ثم ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء ، فدخلت عليه ، فقلت له : إنه قد بلغني أنك رجل صالح ، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة ، وهذا شيء كان عندي صدقة ، فرأيتكم أحق به من غيركم ، وقربته إليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " كلوا وأمسك هو فلم يأكل منه " ، فقلت في نفسي : هذه واحدة ، ثم انصرفت عنه ، فجمعت شيئا ، فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ثم جئته به ، فقلت له : رأيتك لا تأكل الصدقة ، وهذه هدية أكرمتك بها ، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها وأمر أصحابه فأكلوا ، وقلت في نفسي : هاتان ثنتان ، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلمببقيع الغرقد قد اتبع جنازة رجل من الأنصار وهو جالس ، فسلمت عليه ، ثم استدرت أنظر إلى ظهره : هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي ؟ فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم استدرت عرف أني أستثبت في شيء وصف لي ، فألقى رداءه عن ظهره ، فنظرت إلى الخاتم فعرفته ، فأكببت عليه أقبله وأبكي ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تحول " ، فتحولت فجلست بين يديه ، فقصصت عليه حديثي كما حدثتك يا ابن عباس ، فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع ذلك أصحابه ، [ ص: 226 ] ثم شغل سلمان الرق حتى فاته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا ، وأحدا ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كاتب يا سلمان " ، فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها له ، وبأربعين أوقية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " أعينوا أخاكم " فأعانوني في النخل الرجل بثلاثين ، والرجل بعشرين ، والرجل بخمس عشرة ، والرجل بعشر ، والرجل بقدر ما عنده ، حتى اجتمعت لي ثلاثمائة نخلة ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اذهب يا سلمان ، فآذني حتى أكون أنا أضعها بيدي " ، ففقرت لها وأعانني أصحابي ، حتى إذا فرغت جئته فأخبرته ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معي إليها ، فجعلت إليها ، فجعلت أقرب له الودي ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ، حتى فرغنا ، والذي نفس سلمان بيده ، ما مات منه ودية واحدة ، فأديت النخل ، وبقي علي المال ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب ، من بعض المغازي ، فقال : " ما فعل الفارسي المكاتب ؟ " فدعيت له ، فقال : " خذ هذه فأد بها ما عليك " ، فقلت : وأين تقع هذه يا رسول الله مما علي ؟ فقال : " خذها ، فإن الله عز وجل سيؤديها عنك " فوزنت له منها ، فوالذي نفس سلمان بيده أربعين أوقية ، وأوفيتهم حقهم ، وعتق سلمان وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق ، ثم لم يفته مشهد .

                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية