الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 208 ] الثاني : قول الصحابي : أمرنا بكذا ، أو نهينا عن كذا ، أو من السنة كذا ، أو أمر بلال أن يشفع الأذان ، وما أشبهه كله مرفوع على الصحيح الذي قاله الجمهور .

        وقيل : ليس بمرفوع ، ولا فرق بين قوله في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو بعده .

        التالي السابق


        ( الثاني : قول الصحابي : أمرنا بكذا ) ، كقول أم عطية : " أمرنا أن نخرج في العيدين العواتق ، وذوات الخدور ، وأمر الحيض أن يعتزلن مصلى المسلمين " ، أخرجه الشيخان .

        ( أو نهينا عن كذا ) كقولها أيضا : " نهينا عن اتباع الجنائز ، ولم يعزم علينا " ، أخرجاه أيضا .

        ( أو من السنة كذا ) كقول علي : من السنة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرة ، رواه أبو داود في رواية ابن داسة وابن الأعرابي .

        ( أو أمر بلال أن يشفع الأذان ) ، ويوتر الإقامة : أخرجاه ، عن أنس .

        ( وما أشبه كله مرفوع على الصحيح الذي قاله الجمهور ) .

        [ ص: 209 ] قال ابن الصلاح : لأن مطلق ذلك ينصرف بظاهره إلى من له الأمر والنهي ، ومن يجب اتباع سنته ، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم .

        وقال غيره : لأن مقصود الصحابي بيان الشرع لا اللغة ، ولا العادة ، والشرع يتلقى من الكتاب ( ق 62 \ ب ) ، والسنة والإجماع والقياس ، ولا يصح أن يريد أمر الكتاب ; لكون ما في الكتاب مشهورا يعرفه الناس ، ولا الإجماع ; لأن المتكلم بهذا من أهل الإجماع ، ويستحيل أمره نفسه ، ولا القياس إذ لا أمر فيه ، فتعين كون المراد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم .

        ( وقيل : ليس بمرفوع ) ; لاحتمال أن يكون الآمر غيره ، كأمر القرآن أو الإجماع أو بعض الخلفاء ، أو الاستنباط ، وأن يريد سنة غيره .

        وأجيب ببعد ذلك مع أن الأصل الأول . وقد روى البخاري في صحيحه في حديث ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه في قصته مع الحجاج حين قال له : إن كنت تريد السنة فهجر بالصلاة ، قال ابن شهاب : فقلت لسالم : أفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : وهل يعنون بذلك إلا سنته .

        فنقل سالم ، وهو أحد الفقهاء السبعة من أهل المدينة ، وأحد الحفاظ من التابعين عن الصحابة ، أنهم إذا أطلقوا السنة لا يريدون بذلك إلا سنة النبي صلى الله عليه وسلم .

        وأما قول بعضهم : إن كان مرفوعا فلم لا يقولون فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .

        [ ص: 210 ] فجوابه : أنهم تركوا الجزم بذلك تورعا واحتياطا ، ومن هذا قول أبي قلابة ، عن أنس : من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعا . أخرجاه .

        قال أبو قلابة : لو شئت لقلت : إن أنسا رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أي لو قلت لم أكذب ; لأن قوله : من السنة هذا معناه . لكن إيراده بالصيغة التي ذكرها الصحابي أولى ، وخصص بعضهم الخلاف بغير الصديق ، أما هو فإن قال ذلك ، فمرفوع بلا خلاف .

        قلت : ويؤيد الوقف في غيره ما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف ، عن حنظلة السدوسي قال : سمعت أنس بن مالك يقول : ( ق 63 \ أ ) : " كان يؤمر بالسوط فيقطع ثمرته ، ثم يدق بين حجرين ، ثم يضرب به ، فقلت لأنس : في زمان من كان هذا ؟ قال في زمان عمر بن الخطاب " .

        فإن صرح الصحابي بالأمر كقوله : أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا خلاف فيه ، إلا ما حكي عنداود [ ص: 211 ] وبعض المتكلمين أنه لا يكون حجة حتى ينقل لفظه ، وهذا ضعيف ، بل باطل ; لأن الصحابي عدل عارف باللسان . فلا يطلق ذلك إلا بعد التحقيق .

        قال البلقيني : وحكم قوله : من السنة ، قول ابن عباس في متعة الحج : سنة أبي القاسم ، وقول عمرو بن العاص في عدة أم الولد : لا تلبسوا علينا سنة نبينا ، رواه أبو داود ، وقول عمر في المسح : أصبت السنة ، صححه الدارقطني في سننه .

        قال : وبعضها أقرب من بعض ، وأقربها للرفع سنة أبي القاسم ، ويليها سنة نبينا ، ويلي ذلك أصبت السنة .

        ( ولا فرق بين قوله ) ، أي الصحابي ما تقدم ( في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو بعده ) ، أما إذا قال ذلك التابعي ، فجزم ابن الصباغ في العدة أنه مرسل ، وحكى فيه ، [ ص: 212 ] إذا قاله ابن المسيب وجهين : هل يكون حجة أو لا ، وللغزالي فيه احتمالان بلا ترجيح : هل يكون موقوفا ، أو مرفوعا مرسلا .

        وكذا قوله من السنة : فيه وجهان حكاهما المصنف في شرح مسلم وغيره ، وصحح وقفه ، وحكى الداودي الرفع عن القديم .



        تكملة

        من المرفوع أيضا ما جاء عن الصحابي ، ومثله لا يقال من قبل الرأي ، ولا مجال للاجتهاد فيه فيحمل على السماع ، جزم به الرازي في " المحصول " ، وغير واحد من أئمة الحديث .

        وترجم على ذلك الحاكم في كتابه " معرفة المسانيد التي لا يذكر سندها " ، ومثله بقول ابن مسعود : من أتى ساحرا أو عرافا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم .

        وقد أدخل ابن عبد البر في كتابه " التقصي " عدة ( 63 \ ب ) أحاديث من ذلك ، مع أن موضوع الكتاب للمرفوعة ، منها حديث سهل بن أبي خيثمة في صلاة الخوف ، وقال في " التمهيد " : هذا الحديث موقوف على سهل ، ومثله لا يقال من قبل الرأي .

        نقل ذلك العراقي ، وأشار إلى تخصيصه بصحابي لم يأخذ عن أهل الكتاب .

        [ ص: 213 ] وصرح بذلك شيخ الإسلام في " شرح النخبة " جازما به ، ومثله بالإخبار عن الأمور الماضية من بدء الخلق ، وأخبار الأنبياء ، والآتية كالملاحم والفتن وأحوال يوم القيامة ، وعما يحصل بفعله ثواب مخصوص أو عقاب مخصوص .

        قال : ومن ذلك فعله ما لا مجال للاجتهاد فيه ، فينزل على أن ذلك عنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال الشافعي في صلاة علي في الكسوف في كل ركعة أكثر من ركوعين .

        قال : ومن ذلك حكمه على فعل من الأفعال ، بأنه طاعة لله أو لرسوله أو معصية كقوله : من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم .

        وجزم بذلك أيضا الزركشي في مختصره نقلا ، عن ابن عبد البر .

        وأما البلقيني ، فقال : الأقرب أن هذا ليس بمرفوع ؛ لجواز إحالة الإثم على ما ظهر من القواعد ، وسبقه إلى ذلك أبو القاسم الجوهري ، نقله عنه ابن عبد البر ورده عليه .




        الخدمات العلمية