الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 197 ] 3 - باب في تثنية الإقامة

حديث أبي محذورة - من ذهب إليه - حديث أنس - من ذهب إليه - آخر الأمرين .

أخبرنا أبو الفرج عبد الحميد بن إسماعيل بن أحمد بن محمد ، أخبرنا أبو الفتح العبدوسي ، أخبرنا الحسين بن علي بن سلمة ، أخبرنا محمد بن أحمد الحافظ ، أخبرنا أحمد بن شعيب ، أخبرنا إبراهيم بن الحسن ، حدثنا حجاج عن ابن جريج ، عن عثمان بن السائب ، قال : أخبرني أبي وأم عبد الملك بن أبي محذورة ، عن أبي محذورة ، قال : لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حنين خرجت عاشر عشرة من أهل مكة لطلبهم ، فسمعناهم يؤذنون بالصلاة ، فقمنا نؤذن نستهزئ بهم ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : قد سمعت في هؤلاء تأذين إنسان حسن الصوت ، فأرسل إلينا ، فأذنا رجلا رجلا وكنت آخرهم ، فقال حين أذنت : تعال . فأجلسني بين يديه ، فمسح ناصيتي ، وبرك علي ثلاث مرات ، ثم قال : اذهب فأذن عند البيت الحرام . فقلت : كيف يا رسول الله ؟ فعلمني كما يؤذن الآن بها " الله أكبر الله أكبر ، الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، حي على الفلاح ، الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم ، في أول الصبح ، قال : علمني الإقامة مرتين : الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، حي على الفلاح ، قد قامت الصلاة ، قد قامت الصلاة ، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله . قال [ ص: 198 ] ابن جريج : أخبرني عثمان هذا الخبر كله عن أبيه ، وعن أم عبد الملك بن أبي محذورة أنهما سمعا ذلك من أبي محذورة .

هذا حديث حسن على شرط أبي داود والترمذي والنسوي ، وقد اختلف أهل العلم في هذا الباب : فذهبت طائفة إلى أن الإقامة مثل الأذان مثنى ، وهو قول سفيان الثوري ، وأبي حنيفة ، وأهل الكوفة ، واحتجوا في هذا الباب بهذا الحديث ، ورأوه محكما وناسخا لحديث بلال .

أخبرنا أبو زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي ، أخبرنا أحمد بن علي بن عبد الله في كتابه ، أخبرنا الحاكم أبو عبد الله ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار الزاهد ، حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي ، حدثنا هدبة بن خالد ، حدثنا وهيب ، حدثنا خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، عن أنس ، أنهم ذكروا الصلاة عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : نوروا نارا ، أو اضربوا ناقوسا ، فأمر بلالا أن يشفع الأذان ، ويوتر الإقامة .

[ ص: 199 ] هذا حديث صحيح متفق عليه ، أخرجه مسلم في الصحيح من حديث وهيب ، وأخرجاه من حديث عبد الوهاب الثقفي ، عن خالد الحذاء قالوا : وهذا ظاهر في النسخ ؛ لأن بلالا أمر بإفراد الإقامة أول ما شرع الأذان على ما دل عليه حديث أنس .

وأما حديث أبي محذورة كان عام حنين وبين الوقتين مدة مديدة .

وخالفهم في ذلك أكثر أهل العلم ؛ فرأوا أن الإقامة فرادى ، وإلى هذا المذهب ذهب سعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، والزهري ، ومالك بن أنس ، وأهل الحجاز ، والشافعي وأصحابه ، وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز ، ومكحول ، والأوزاعي ، وأهل الشام ، وإليه ذهب الحسن البصري ، ومحمد بن سيرين ، وأحمد بن حنبل ، ومن تبعهم من العراقيين ، وإليه ذهب يحيى بن يحيى ، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي ، ومن تبعهما من الخراسانيين ، وذهبوا في ذلك إلى حديث أنس وقالوا : أما حديث أبي محذورة فالجواب عنه من وجوه نذكر بعضها :

منها : أن من شرط الناسخ أن يكون أصح سندا ، وأقوم قاعدة في جميع جهات الترجيحات على ما قررناه في مقدمة الكتاب ، وغير مخفي على من الحديث صناعته أن حديث أبي محذورة لا يوازي حديث أنس في جهة واحدة في الترجيح ، فضلا عن الجهات كلها .

ومنها : أن جماعة من الحفاظ ذهبوا إلى أن هذه اللفظة في تثنية الإقامة غير محفوظة ؛ بدليل ما أخبرنا به أبو إسحاق إبراهيم بن علي الفقيه ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل ، أخبرنا أحمد بن الحسين ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ ، أخبرنا أبو زرعة عبد الله [ ص: 200 ] محمد بن الطيب ، أن محمد بن المسيب بن إسحاق أخبرهم ، حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري بخسروجرد ، حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب ، أخبرني إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة ، أخبرني جدي عبد الملك بن أبي محذورة ، أنه سمع أبا محذورة ؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة . وقال عبد الله بن الزبير الحميدي عن إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الملك قال : أدركت جدي وأبي وأهلي يقيمون فيقولون : " الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، قد قامت الصلاة ، قد قامت الصلاة ، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله " . ونحو ذلك حكى الشافعي عن ولد أبي محذورة ، وفي بقاء أبي محذورة وولده على إفراد الإقامة دلالة ظاهرة على وهم وقع فيما روي في حديث أبي محذورة من تثنية الإقامة .

وقال بعض أئمة الحديث : إنما ورد في تثنية كلمة التكبير وكلمة الإقامة فقط ، فحملها بعض الرواة على جميع كلماتها ، وفي رواية حجاج بن محمد وعبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن عثمان بن السائب ، عن أبيه ، وعن أم عبد الملك بن أبي محذورة كليهما عن أبي محذورة ما يدل على ذلك .

ثم لو قدرنا أن هذه الزيادة محفوظة ، وأن الحديث ثابت ، ولكنه منسوخ ، وأذان بلال هو آخر الأذانين ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عاد من حنين ورجع إلى المدينة أقر بلالا على أذانه وإقامته .

قرأت على المبارك بن علي البيع ، أخبرك أبو طالب عبد القادر بن محمد بن يوسف إذنا ، عن أبي إسحاق إبراهيم بن عمر البرمكي ، عن عبد العزيز بن جعفر ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمد الخلال ، أخبرني محمد [ ص: 201 ] بن علي ، حدثنا الأثرم قال : قيل لأبي عبد الله : أليس حديث أبي محذورة بعد حديث عبد الله بن يزيد ؛ لأن حديث أبي محذورة بعد فتح مكة ؟ فقال : أليس قد رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ؟ فأقر بلالا على أذان عبد الله بن زيد .

وبالإسناد قال الخلال : أخبرني عبد الملك بن عبد الحميد قال : ناظرت أبا عبد الله في أذان أبي محذورة : فقال : نعم ، قد كان أبو محذورة يؤذن ، وثبت أذان أبي محذورة ، ولكن أذان بلال هو آخر الأذان .

التالي السابق


الخدمات العلمية