الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                        [ ص: 299 - 300 ] ( والمني نجس يجب غسله إن كان رطبا ، فإذا جف على الثوب أجزأ فيه الفرك ) لقوله عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها" { فاغسليه إن كان رطبا ، وافركيه إن كان يابسا }. [ ص: 301 - 302 ] وقال الشافعي رحمه الله : المني طاهر ، والحجة عليه ما رويناه ، وقال عليه الصلاة والسلام : " { إنما يغسل الثوب من خمس }وذكر منها المني .

                                                                                                        ولو أصاب البدن قال مشايخنا رحمهم الله: يطهر بالفرك ; لأن البلوى فيه أشد ، وعن أبي حنيفة رحمه الله : أنه لا يطهر إلا بالغسل ; لأن حرارة البدن جاذبة فلا يعود إلى الجرم ، والبدن لا يمكن فركه .

                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                        الحديث الثالث : روي عن { النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة في المني : فاغسليه إن كان رطبا وافركيه إن كان يابسا } ، قلت : غريب .

                                                                                                        وروى الدارقطني في " سننه " من حديث عبد الله بن الزبير ثنا بشر بن بكر ثنا الأوزاعي عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن { عائشة قالت : كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يابسا وأغسله إذا كان رطبا } ، انتهى .

                                                                                                        ورواه البزار في " مسنده " قال : لا يعلم أسنده عن عائشة إلا عبد الله بن الزبير هذا ، ورواه غيره عن عمرة مرسلا انتهى .

                                                                                                        قال ابن الجوزي في " التحقيق " : والحنفية يحتجون على نجاسة المني بحديث رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة : " { اغسليه إن كان رطبا وافركيه إن كان يابسا } ، قال : وهذا حديث لا يعرف ، وإنما روي نحوه من كلام عائشة ، ثم ذكر حديث الدارقطني المذكور ، والله أعلم . ومن الناس من حمل فرك الثوب على غير الثوب الذي يصلي فيه ، وهذا ينتقض بما وقع في " مسلم " ، { كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلي فيه }. وعند أبي داود : ثم يصلي فيه . والفاء ترفع احتمال غسله بعد الفرك ، وحمله بعض المالكية على الفرك بالماء ، وهذا ينتقض بما في " مسلم " أيضا { لقد رأيتني وإني لأحكه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابسا بظفري } ، والله أعلم . [ ص: 301 ]

                                                                                                        { أحاديث الباب } : روى البخاري ، ومسلم من حديث عائشة أنها كانت تغسل المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخرج ، فيصلي وأنا أنظر إلى بقع الماء في ثوبه انتهى .

                                                                                                        قال البيهقي : وهذا لا منافاة بينه وبين قولها : كنت أفرك من ثوبه ، ثم يصلي فيه ، كما لا منافاة بين غسله قدميه ومسحه على الخفين انتهى .

                                                                                                        وقال ابن الجوزي : ليس في هذا الحديث حجة ; لأن غسله كان للاستقذار لا للنجاسة .

                                                                                                        { حديث آخر } : إنما يغسل الثوب من خمس : سيأتي قريبا . الآثار : روى ابن أبي شيبة في " مصنفه " حدثنا حسين بن علي عن جعفر بن برقان عن خالد بن أبي عزة ، قال : سأل رجل عمر بن الخطاب ، فقال : إني احتلمت على طنفسة ، فقال : " إن كان رطبا فاغسله ، وإن كان يابسا فاحككه ، وإن خفي عليك فارششه بالماء انتهى .

                                                                                                        { أحاديث الخصوم } : روى أحمد في " مسنده " حدثنا معاذ بن معاذ أنبأ عكرمة بن عمار عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن عائشة ، قالت : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر ، ثم يصلي فيه ويحته يابسا ثم يصلي فيه }انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه الدارقطني في " سننه " ، والطبراني في " معجمه " عن إسحاق بن يوسف الأزرق عن شريك القاضي عن محمد بن عبد الرحمن عن عطاء عن ابن عباس قال : { سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المني يصيب الثوب ، قال : إنما هو بمنزلة المخاط أو البزاق ، وقال : إنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذخرة }انتهى .

                                                                                                        قال الدارقطني : لم يرفعه غير إسحاق الأزرق عن شريك انتهى . قال ابن الجوزي في " التحقيق " : وإسحاق إمام مخرج له في " الصحيحين " ، ورفعه زيادة ، وهي من الثقة مقبولة ، ومن وقفه لم يحفظ انتهى .

                                                                                                        ورواه البيهقي في " المعرفة " من طريق الشافعي ثنا سفيان عن عمرو بن دينار . وابن جريج كلاهما عن عطاء عن ابن عباس موقوفا ، وقال : هذا هو الصحيح موقوف ، وقد روي عن شريك عن ابن أبي ليلى عن عطاء مرفوعا ، ولا [ ص: 302 ] يثبت انتهى .

                                                                                                        { الحديث الرابع } : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " { إنما يغسل الثوب من خمس } ، وذكر منها المني ، قلت : رواه الدارقطني في " سننه " من حديث ثابت بن حماد عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن { عمار ، قال : مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أسقي راحلة لي في ركوة ، إذ تنخمت فأصابت نخامتي ثوبي ، فأقبلت أغسلها ، فقال : يا عمار ما نخامتك ولا دموعك إلا بمنزلة الماء الذي في ركوتك ، إنما يغسل الثوب من خمس : من البول ، والغائط ، والمني ، والدم ، والقيء }انتهى .

                                                                                                        قال الدارقطني : لم يروه غير ثابت بن حماد ، وهو ضعيف جدا انتهى . ورواه ابن عدي في " الكامل " وقال : لا أعلم روى هذا الحديث عن علي بن زيد غير ثابت بن حماد ، وله أحاديث في أسانيدها الثقات يخالف فيها وهي مناكير ومقلوبات ، انتهى .

                                                                                                        قلت : وجدت له متابعا عند الطبراني ، رواه في " معجمه الكبير " من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد به سندا ومتنا ، وبقية الإسناد : حدثنا الحسين بن إسحاق التستري ثنا علي بن بحر ثنا إبراهيم بن زكريا العجلي ثنا حماد بن سلمة به . [ ص: 303 ] واعلم أني وجدت الحديث في نسختين صحيحتين من مسند البزار : من رواية ثابت بن حماد ، وليس فيه المني ، وإنما قال : إنما يغسل الثوب من الغائط ، والبول ، والقيء ، والدم انتهى .

                                                                                                        قال البزار : وثابت بن حماد كان ثقة . ولا يعرف أنه روى غير هذا الحديث انتهى . نقل البزار ذلك عن شيخ شيخه إبراهيم بن زكريا . وقال البيهقي في " سننه الكبرى " في " باب التطهير بالماء دون المائعات " : وأما حديث عمار بن ياسر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " يا عمار ما نخامتك " إلى آخره ، فهو باطل لا أصل له ، إنما رواه ثابت بن حماد عن علي بن زيد عن ابن المسيب عن عمار ، وعلي بن زيد غير محتج به ، وثابت بن حماد متهم بالوضع انتهى .

                                                                                                        وكأن البيهقي رحمه الله توهم أن تشبيه النخامة في الحديث بالماء في الطهورية ، وليس كذلك ، إنما التشبيه في الطهارة ، أي : النخامة طاهرة لا يغسل الثوب منها ، وإنما يغسل من كذا وكذا ، ولفظ الحديث يدل عليه ، إذ لا يلزم من تشبيه شيء بشيء استواؤهما من كل الوجوه ، فصح أن ما قاله غير ظاهر ، وعلي بن زيد روى له مسلم مقرونا بغيره .

                                                                                                        وقال العجلي : لا بأس به ، وفي موضع آخر قال : يكتب حديثه ، وروى له الحاكم في " المستدرك " وقال الترمذي : صدوق ، وثابت هذا ، قال شيخنا علاء الدين : ما رأيت أحدا بعد الكشف التام جعله متهما بالوضع غير البيهقي ، وقد ذكره في " كتاب المعرفة " في هذا الحديث ، ولم ينسبه إلى الوضع ، وإنما حكى فيه قول الدارقطني . وقول ابن عدي المتقدمين ، والله أعلم .




                                                                                                        الخدمات العلمية