الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                        [ ص: 159 - 160 ] باب التحالف

                                                                                                        قال : ( وإذا اختلف المتبايعان في البيع فادعى أحدهما ثمنا وادعى البائع أكثر منه أو اعترف البائع بقدر من المبيع وادعى المشتري أكثر منه فأقام أحدهما البينة قضي له بها ) لأن في الجانب الآخر مجرد الدعوى ، والبينة أقوى منها ( وإن أقام كل واحد منهما بينة كانت البينة المثبتة للزيادة أولى ) لأن البينات للإثبات ، ولا تعارض في الزيادة ( ولو كان الاختلاف في الثمن والمبيع جميعا فبينة البائع أولى في الثمن ، وبينة المشتري أولى في المبيع ) نظرا إلى زيادة الإثبات ( وإن لم يكن لكل واحد منهما بينة قيل : للمشتري إما أن ترضى بالثمن الذي ادعاه البائع وإلا فسخنا البيع ، وقيل للبائع : إما أن تسلم ما ادعاه المشتري من المبيع [ ص: 161 ] وإلا فسخنا البيع ) لأن المقصود قطع المنازعة وهذه جهة فيه لأنه ربما لا يرضيان بالفسخ ، فإذا علما به يتراضيان به ( فإن لم يتراضيا استحلف الحاكم كل واحد منهما على دعوى الآخر ) وهذا التحالف قبل القبض على وفاق القياس ; لأن البائع يدعي زيادة الثمن ، والمشتري ينكره . والمشتري يدعي وجوب تسليم المبيع بما نقد والبائع ينكره ، فكل واحد منهما منكر فيحلف فأما بعد القبض فمخالف للقياس لأن المشتري لا يدعي شيئا ; لأن المبيع سالم له فبقي دعوى البائع في زيادة الثمن والمشتري ينكرها فيكتفي بحلفه لكنا عرفناه بالنص وهو قوله عليه الصلاة والسلام : " { إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة بعينها تحالفا وترادا }" .

                                                                                                        قال : ( ويبتدئ بيمين المشتري ) وهذا قول محمد وأبي يوسف رحمهما اللهآخرا وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله وهو الصحيح ; لأن المشتري أشدهما إنكارا لأنه يطالب أولا بالثمن ، ولأنه يتعجل فائدة النكول وهو إلزام الثمن ، ولو بدئ بيمين البائع تتأخر المطالبة بتسليم المبيع إلى زمان استيفاء الثمن . وكان أبو يوسف رحمه الله يقول أولا يبدأ بيمين البائع لقوله عليه الصلاة والسلام : " { إذا اختلف المتبايعان فالقول ما قاله البائع }" خصه بالذكر وأقل فائدته [ ص: 162 ] التقديم ( وإن كان بيع عين بعين أو ثمن بثمن بدأ القاضي بيمين أيهما شاء ) [ ص: 163 ] لاستوائهما .

                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                        باب التحالف [ ص: 161 ]

                                                                                                        الحديث الأول : قال عليه السلام : " { إذا اختلف المتبايعان ، والسلعة قائمة بعينها ، تحالفا ، وترادا }" قلت : يأتي في الحديث بعده .

                                                                                                        الحديث الثاني : قال عليه السلام : " { إذا اختلف المتبايعان ، فالقول ما قاله البائع }" ; قلت : أخرجه أصحاب السنن الأربعة من حديث ابن مسعود ، وله طرق : فأبو داود في " البيوع " عن أبي عميس عن عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الأشعث عن أبيه عن جده أن عبد الله بن مسعود باع للأشعث بن قيس رقيقا من رقيق الخمس بعشرين ألف درهم ، فأرسل عبد الله إليه في ثمنهم ، فقال : إنما أخذتهم بعشرة آلاف ، فقال عبد الله : إن شئت حدثتك بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سمعته يقول : " { إذا اختلف المتبايعان ليس بينهما بينة ، فالقول ما يقول رب السلعة ، أو يتتاركان }" انتهى .

                                                                                                        ورواه الحاكم في " المستدرك في البيوع " ، وقال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه . قال [ ص: 162 ] ابن القطان : وفيه انقطاع بين محمد بن الأشعث ، وابن مسعود ، ومع الانقطاع فعبد الرحمن بن قيس مجهول الحال ، وكذلك أبوه قيس ، وكذلك جده محمد ، إلا أنه أشهرهم ، وهو أبو القاسم بن الأشعث ، عداده في الكوفيين ، روى عنه مجاهد ، والشعبي ، والزهري ، وعمر بن قيس الماصر ، وسليمان بن يسار ، وروى عن عائشة وأما روايته عن ابن مسعود فمنقطعة ، انتهى .

                                                                                                        طريق آخر : أخرجه أبو داود ، وابن ماجه عن ابن أبي ليلى عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه ، ولم يذكر أبو داود نصه ، وإنما أحال على اللفظ المتقدم ، قال : والكلام يزيد وينقص ، وذكر ابن ماجه فيه النص ، وزاد فيه : والمبيع قائم بعينه ، فالقول ما قال البائع ، أو يترادان البيع ، ورواه أحمد ، والدارمي ، والبزار في " مسانيدهم " ، وأعل بوجهين : أحدهما : أن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه ، فهو منقطع ; والثاني : أن محمد بن أبي ليلى ضعيف قال البيهقي في " المعرفة " : أهل العلم بالحديث لا يقبلون ما تفرد به لكثرة أوهامه ، وقد رواه أبو عميس ، ومعن بن عبد الرحمن ، وعبد الرحمن المسعودي ، وأبان بن تغلب ، كلهم عن القاسم عن عبد الله منقطعا ، وليس فيه : والمبيع قائم بعينه ، وأصح إسناد روي في هذا الباب رواية أبي العميس عن عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الأشعث عن أبيه عن جده به انتهى . طريق آخر : أخرجه الترمذي عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن [ ص: 163 ] ابن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " { إذا اختلف البيعان ، فالقول قول البائع ، والمبتاع بالخيار }" انتهى . وقال : حديث مرسل ، فإن عون بن عبد الله لم يدرك ابن مسعود انتهى .

                                                                                                        طريق آخر : أخرجه النسائي عن عبد الملك بن عبيد ، قال : حضرت أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود ، وقد أتاه رجلان تبايعا سلعة ، فقال أحدهما : أخذتها بكذا ، وقال هذا : بعتها بكذا ، فقال أبو عبيدة : أتي ابن مسعود في مثل هذا ، فقال : { حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أتي في مثل هذا ، فأمر البائع أن يستحلف ، ثم يختار المتبايع ، فإن شاء أخذ ، وإن شاء ترك }انتهى .

                                                                                                        ورواه أحمد في " مسنده " عن الشافعي إلا أنه قال : عن عبد الملك بن عمير بالميم والراء ومن طريق أحمد رواه الدارقطني في " سننه " ومن طريق الشافعي رواه الحاكم في " المستدرك في البيوع " ، وقال : حديث صحيح . إن كان المحفوظ في إسناده عبد الملك بن عمير انتهى . وعن الحاكم رواه البيهقي في " كتاب المعرفة " ، فقال : أخبرنا أبو عبد الله الحاكم في " كتاب المستدرك " به ، قال البيهقي : وهو مرسل ، فإن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه شيئا ، وعبد الملك بن عمير هو الصواب انتهى .

                                                                                                        وقال صاحب " التنقيح " : هكذا وقع في رواية النسائي عبد الملك بن عبيد ، وهو لا يعرف . وفي رواية الإمام أحمد : عبد الملك بن عمير ، وكأنه وهم ، فإن عبد الله بن أحمد قال بعد ذكر الحديث : قرأت على أبي ، قال : أخبرت عن هشام بن يوسف في البيعين في حديث ابن جريج عن إسماعيل بن أمية عن عبد الملك بن عبيد ، وقال أبي : قال حجاج الأعور : عبد الملك بن عبيد ، كذا قال ابن عبيدة ، فصار في راوي هذا الحديث ثلاثة أقوال ، والله أعلم بالصواب انتهى كلامه . قال المنذري في " مختصره " : وقد روي هذا الحديث من طرق عن عبد الله بن مسعود كلها لا تثبت ، وقد وقع في بعضها : إذا اختلف البيعان ، والمبيع قائم بعينه ، وفي لفظ : والسلعة قائمة ، وهو لا [ ص: 164 ] يصح ، فإنها من رواية ابن أبي ليلى ، وهو ضعيف ، وقيل : إنه من قول بعض الرواة ، والله أعلم بالصواب ، وقال ابن الجوزي في " التحقيق " : أحاديث هذا الباب فيها مقال ، فإنها مراسيل وضعاف ، أبو عبيدة لم يسمع من أبيه ، ولا عبد الرحمن والقاسم لم يسمع من ابن مسعود ، ولا عون بن عبد الله وقد رواه الدارقطني بألفاظ مختلفة ، وبأسانيد ضعيفة ، فيها ابن عياش ، ومحمد بن أبي ليلى ، والحسن بن عمارة ، وابن المرزبان ، وكلهم ضعاف انتهى .

                                                                                                        وقال صاحب " التنقيح " : والذي يظهر أن حديث ابن مسعود بمجموع طرقه له أصل ، بل هو حديث حسن يحتج به لكن في لفظه اختلاف ، والله أعلم انتهى .

                                                                                                        قلت : ويدل على ذلك أن مالكا أخرجه في " الموطإ " بلاغا ، قال أبو مصعب عن مالك : بلغني أن عبد الله بن مسعود كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { أيما بيعين تبايعا ، فالقول ما قال البائع ، أو يترادان } ، انتهى .




                                                                                                        الخدمات العلمية