الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                        [ ص: 49 - 51 ] ( ويصلي القائم خلف القاعد ) وقال محمد رحمه الله تعالى: لا يجوز ، وهو القياس لقوة حال القائم ، ونحن تركناه بالنص ، وهو ما روي { أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى آخر صلاته قاعدا والقوم خلفه قيام }

                                                                                                        [ ص: 51 - 52 ]

                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                        [ ص: 51 - 52 ] الحديث الحادي والسبعون : روي أنه عليه السلام { صلى آخر صلاته قاعدا ، والناس خلفه قيام } ، قلت : أخرجه البخاري . ومسلم عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، قال : { دخلت على عائشة ، فقلت لها : ألا تحدثيني عن مرض النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : بلى ، لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أصلى الناس ؟ قلنا : لا ، هم ينتظرونك للصلاة ، قال : ضعوا لي ماء في المخضب ، ففعلنا ، فاغتسل ، ثم ذهب لينوء ، فأغمي عليه ، ثم أفاق ، فقال : أصلى الناس ؟ فقلنا : لا ، وهم ينتظرونك يا رسول الله ، فقال : ضعوا لي ماء في المخضب ، ففعلنا ، فاغتسل ، ثم ذهب لينوء ، فأغمي عليه ، ثم أفاق ، فقال : أصلى الناس ؟ فقلنا : لا ، وهم ينتظرونك يا رسول الله ، فقال : ضعوا لي ماء في المخضب ، فاغتسل ، ثم ذهب لينوء ، فأغمي عليه ، ثم أفاق ، فقال : أصلى الناس ؟ فقلنا : لا وهم ينتظرونك يا رسول الله ، قالت : والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة . قالت : فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر أن يصلي بالناس ، فأتاه الرسول ، وكان أبو بكر رجلا رقيقا ، فقال : يا عمر صل أنت ، فقال عمر : أنت أحق بذلك ، قالت : فصلى بهم أبو بكر ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة ، فخرج يهادي بين رجلين : أحدهما العباس ، لصلاة الظهر ، وأبو بكر يصلي بالناس ، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر ، فأومأ إليه أن لا يتأخر ، وقال لهما : أجلساني إلى جنبه ، فأجلساه إلى جنب أبي بكر فكان أبو بكر يصلي ، وهو قائم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر ، والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد . قال عبيد الله : فعرضت على ابن عباس حديث عائشة ، فما أنكر منه شيئا ، غير أنه قال : أسمت لك الرجل الذي كان مع العباس ؟ قلت : لا ، قال : هو علي }انتهى .

                                                                                                        وأخرجه مسلم عن الأسود عن عائشة ، قالت : { لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم مرضه [ ص: 53 ] الذي توفي فيه ، فذكر نحوه } ، ورواه البيهقي في " المعرفة " { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يصلي بالناس في مرضه الذي مات فيه ، إلى أن قال : فكان عليه السلام بين يدي أبي بكر يصلي قاعدا ، وأبو بكر يصلي بصلاته قائما ، والناس يصلون بصلاة أبي بكر ، والناس قيام خلف أبي بكر }انتهى .

                                                                                                        أحاديث الخصوم لهم : حديث { إذا صلى جالسا ، فصلوا جلوسا } ، أخرجه البخاري . ومسلم ، وباقي الستة عن الزهري عن أنس ، قال : { سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرس فجحش شقه الأيمن : فدخلنا عليه نعوده ، فحضرت الصلاة ، فصلى بنا قاعدا ، فصلينا وراءه قعودا ، فلما قضى الصلاة ، قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا كبر فكبروا ، إلى أن قال : وإذا صلى قاعدا ، فصلوا قعودا } ، وأخرجا من حديث أبي هريرة نحوه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { إنما جعل الإمام ليؤتم به } ، الحديث . ليس فيه قصة الفرس ، وأخرجا عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، قالت : { اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليه ناس من أصحابه يعودونه ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا ، فصلوا بصلاته قياما . فأشار إليهم أن اجلسوا ، فجلسوا ، فلما انصرف ، قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا ركع فاركعوا ، وإذا رفع فارفعوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا }. انتهى .

                                                                                                        وأخرج مسلم عن أبي الزبير عن جابر نحوه ، سواء ، وقد أخرج البخاري في " صحيحه " حديث أنس المذكور ، من رواية حميد الطويل عنه ، مخالفا لرواية الزهري عنه . ولفظه : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سقط عن فرسه فجحشت ساقه ، أو كتفه ، وآلى من نسائه شهرا ، فجلس في مشربة له ، فأتاه أصحابه يعودونه ، فصلى بهم جالسا ، وهم قيام ، فلما سلم : قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا كبر فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا سجد فاسجدوا ، وإن صلى قائما فصلوا قياما ، ونزل لتسع وعشرين ، فقالوا : يا رسول الله ، إنك آليت شهرا ؟ فقال : إن الشهر تسع وعشرون }. انتهى .

                                                                                                        ذكره في " أوائل الصلاة في باب الصلاة في السطوح " منفردا به ، دون الباقين ، وتكلف القرطبي في " شرح مسلم " الجمع بين الروايتين ، فقال : يحتمل أن يكون البعض : صلوا قياما . والبعض صلوا جلوسا ، فأخبر أنس بالحالتين ، وهذا مع ما فيه من التعسف ، ليس في شيء من الروايات ما يساعده عليه ، وقد ظهر لي فيه وجهان : أحدهما : أنهم صلوا خلفه [ ص: 54 ] قياما . فلما شعر بهم النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالجلوس ، فجلسوا ، فرآهم أنس على الحالتين ، فأخبر بكل منهما ، مختصرا للأخرى ، لم يذكر القصة بتمامها ، يدل عليه حديث عائشة ، وحديث جابر المتقدمان . الثاني : وهو الأظهر : أنهما كانا في وقتين ، وإنما أقرهم عليه السلام في إحدى الواقعتين على قيامهم خلفه ، لأن تلك الصلاة كانت تطوعا ، والتطوعات يحتمل فيها ما لا يحتمل في الفرائض .

                                                                                                        وقد صرح بذلك في بعض طرقه ، كما أخرجه أبو داود في " سننه " عن أبي سفيان عن جابر ، قال : { ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا بالمدينة ، فصرعه على جذم نخلة ، فانفكت قدمه ، فأتيناه نعوده ، فوجدناه في مشربة لعائشة ، يسبح جالسا ، قال : فقمنا خلفه ، فسكت عنا ، ثم أتيناه مرة أخرى نعوده ، فصلى المكتوبة جالسا ، فقمنا خلفه ، فأشار إلينا فقعدنا ، قال : فلما قضى الصلاة ، قال : إذا صلى الإمام جالسا فصلوا جلوسا وإذا صلى قائما ، فصلوا قياما ، ولا تفعلوا ، كما تفعل فارس بعظمائها }انتهى . ورواه ابن حبان في " صحيحه " كذلك ، ثم قال : وفي هذا الخبر دليل على أن ما في حديث حميد عن أنس أنه صلى بهم قاعدا وهم قيام ، أنه إنما كانت تلك الصلاة سبحة ، فلما حضرت الفريضة أمرهم بالجلوس ، فجلسوا ، فكان أمر فريضة لا فضيلة . انتهى . قلت : ومما يدل على أن التطوعات يحتمل فيها ما لا يحتمل في الفرائض ما أخرجه الترمذي عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن { أنس ، قال : قال ، لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : إياك والالتفات في الصلاة ، فإنه هلكة ، فإن كان لا بد ، ففي التطوع لا في الفريضة }انتهى . وقال : حديث حسن انتهى .

                                                                                                        وأصحابنا يجعلون أحاديث : { إذا صلى جالسا ، فصلوا جلوسا } ، منسوخة بحديث عائشة المتقدم : أنه صلى آخر صلاته قاعدا ، والناس خلفه قيام ، وبحديث : { لا يؤمن أحد بعدي جالسا } ، وسيأتي ذكره ، لكن حديث عائشة وقع فيه اضطراب لا يقدح فيه ، فالذي تقدم أنه عليه السلام كان إماما ، وأبو بكر مأموما ، وقد ورد فيه العكس ، كما أخرجه الترمذي . والنسائي عن نعيم بن أبي هند عن أبي وائل عن مسروق عن عائشة ، قالت : { صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه خلف أبي بكر قاعدا }انتهى .

                                                                                                        قال الترمذي : حديث [ ص: 55 ] حسن صحيح ، وأخرج النسائي أيضا عن حميد عن أنس ، قال : { آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم ، صلى في ثوب واحد متوشحا خلف أبي بكر } ، انتهى .

                                                                                                        ومثل هذا لا يعارض ما وقع في الصحيح ، مع أن العلماء جمعوا بينهما ، قال البيهقي في " المعرفة " : ولا تعارض بين الخبرين ، فإن الصلاة التي كان فيها النبي صلى الله عليه وسلم إماما هي صلاة الظهر ، يوم السبت . أو الأحد ، والتي كان فيها مأموما هي صلاة الصبح ، من يوم الاثنين ، وهي آخر صلاة صلاها عليه السلام ، حتى خرج من الدنيا ، قال : وهذا لا يخالف ما يثبت عن الزهري عن أنس في صلاتهم يوم الاثنين ، وكشفه عليه السلام الستر ، ثم إرخائه ، فإن ذلك إنما كان في الركعة الأولى ، ثم إنه عليه السلام وجد في نفسه خفة ، فخرج فأدرك معه الركعة الثانية ، يدل عليه ما ذكره موسى بن عقبة في " المغازي " عن الزهري ، وذكره أبو الأسود عن عروة { أن النبي صلى الله عليه وسلم أقلع عنه الوعك ليلة الاثنين ، فغدا إلى صلاة الصبح متوكئا على الفضل بن العباس . وغلام له ، وقد سجد الناس مع أبي بكر ، حتى قام إلى جنب أبي بكر ، فاستأخر أبو بكر فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوبه ، فقدمه في مصلاه فصفا جميعا ، ورسول الله جالس ، وأبو بكر يقرأ ، فركع معه الركعة الآخرة ، ثم جلس أبو بكر حتى قضى سجوده ، فتشهد وسلم ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الأخرى ، ثم انصرف إلى جذع من جذوع المسجد } ، فذكر القصة في دعائه أسامة بن زيد ، وعهده إليه فيما بعثه فيه ، ثم في وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ، أخبرنا به أبو عبد الله الحافظ بسنده إلى ابن لهيعة ، حدثنا أبو الأسود عن عروة ، فذكره ، قال البيهقي : فالصلاة التي صلاها أبو بكر ، وهو مأموم ، هي صلاة الظهر ، وهي التي خرج فيها بين العباس ، وعلي ، والتي كان فيها إماما ، هي صلاة الصبح ، وهي التي خرج فيها بين الفضل بن العباس . وغلام له ، وفيها الجمع بين الأخبار انتهى كلام البيهقي . قلت : وحديث كشف الستارة في " الصحيحين " ، وليس فيه : أنه عليه السلام صلى خلف أبي بكر ، [ ص: 56 ] أخرجاه عن أنس أن أبا بكر { كان يصلي بهم في وجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه ، حتى إذا كان يوم الاثنين ، وهم صفوف في الصلاة ، كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة ، فنظر إلينا ، وهو قائم ، كأن وجهه ورقة مصحف ، ثم تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا ، قال : فبهتنا ، ونحن في الصلاة فرحا برسول الله ، ونكص أبو بكر على عقبيه ، وظن أن رسول الله خارج للصلاة ، فأشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم ، ثم دخل ، وأرخى الستر ، وتوفي من يومه ذلك }.

                                                                                                        وفي لفظ للبخاري : أن ذلك كان في صلاة الفجر ، والله أعلم ، وقال ابن حبان في " صحيحه " بعد أن روى حديث عائشة من رواية زائدة عن موسى بن أبي عائشة عن عبيد الله بن عبد الله عن عائشة بلفظ الصحيحين ، ثم رواه من حديث شعبة عن موسى بن أبي عائشة به : { أن أبا بكر صلى بالناس ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف خلفه }. انتهى .

                                                                                                        قال : فهذا شعبة قد خالف زائدة في هذا الخبر ، وهما ثبتان حافظان ، ثم أخرج عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن مسروق عن عائشة ، قالت : { أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أفاق ، فقال : أصلي بالناس ؟ قلنا : لا ، الحديث إلى أن قال : فخرج بين ثويبة وبريرة ، فأجلستاه إلى جنب أبي بكر ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ، وهو جالس ، وأبو بكر قائم يصلي بصلاة رسول الله ، والناس يصلون بصلاة أبي بكر } ، ثم قال : وقد خالف نعيم بن أبي هند في هذا الخبر ، عاصم بن أبي النجود ، ثم أخرج عن نعيم بن أبي هند عن أبي وائل عن مسروق عن عائشة ، قالت : { صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه خلف أبي بكر قاعدا }.

                                                                                                        قال وعاصم بن أبي النجود . ونعيم بن أبي هند حافظان ثقتان .

                                                                                                        قال : وأقول ، وبالله التوفيق : إن هذه الأخبار كلها صحيحة ، ليس فيها تعارض ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مرضه الذي مات فيه صلاتين في المسجد : في إحداهما . كان إماما ، وفي الأخرى كان مأموما ، قال : والدليل على ذلك أن في خبر عبيد الله بن عبد الله عن عائشة { أنه عليه السلام خرج بين رجلين : العباس . وعلي } ، وفي خبر مسروق عنهما : { أنه عليه السلام خرج بين : بريرة . وثويبة }انتهى .

                                                                                                        وفي كلام البخاري ما يقتضي الميل إلى أن حديث : { إذا صلى جالسا ، فصلوا جلوسا } ، منسوخ ، فإنه قال بعد أن رواه : قال [ ص: 57 ] الحميدي : هذا حديث منسوخ ، لأنه عليه السلام آخر ما صلى صلى قاعدا ، والناس خلفه قيام ، وإنما يؤخذ بالآخر ، فالآخر من فعله عليه السلام . انتهى .

                                                                                                        ذكره في عدة مواضع من كتابه ، وابن حبان لم ير بالنسخ ، فإنه قال بعد أن رواه في " صحيحه " : وفي هذا الخبر بيان واضح أن الإمام إذا صلى قاعدا ، كان على المأمومين أن يصلوا قعودا ، وأفتى به من الصحابة : جابر بن عبد الله . وأبو هريرة . وأسيد بن حضير . وقيس بن فهد ، ولم يرو عن غيرهم من الصحابة خلاف هذا ، بإسناد متصل . ولا منقطع ، فكان إجماعا ، والإجماع عندنا إجماع الصحابة ، وقد أفتى به من التابعين جابر بن زيد ، ولم يرو عن غيره من التابعين خلافه بإسناد صحيح ، ولا واه ، فكان إجماعا من التابعين أيضا .

                                                                                                        وأول من أبطل ذلك في الأمة : المغيرة بن مقسم ، وأخذ عنه حماد بن أبي سليمان ، ثم أخذه عن حماد أبو حنيفة ، ثم عنه أصحابه ، وأعلى حديث احتجوا به ، حديث رواه جابر الجعفي عن الشعبي ، قال عليه السلام : { لا يؤمن أحد بعدي جالسا } ، وهذا لو صح إسناده لكان مرسلا ، والمرسل عندنا . وما لم يرو سيان ، لأنا لو قبلنا إرسال تابعي ، وإن كان ثقة ، لزمنا قبول مثله عن أتباع التابعين ، وإذا قلنا للزمنا قبوله من أتباع أتباع التابعين ، ويؤدي ذلك إلى أن يقبل من كل أحد ، إذا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي هذا نقض الشريعة ، والعجب أن أبا حنيفة يجرح جابرا الجعفي ويكذبه ، ثم لما أخطره الأمر جعل يحتج بحديثه ، وذلك كما أخبرنا به الحسين بن عبد الله بن يزيد القطان بالرقة ، ثنا أحمد بن أبي الحواري سمعت أبا يحيى الحماني سمعت أبا حنيفة ، يقول : ما رأيت فيمن لقيت أفضل من عطاء ، ولا لقيت فيمن لقيت أكذب من جابر الجعفي ، ما أتيته بشيء من رأيي قط إلا جاءني فيه بحديث ، وقد ذكرنا ترجمة جابر الجعفي في " كتاب الضعفاء " . انتهى كلامه .

                                                                                                        وحديث جابر الجعفي هذا أخرجه الدارقطني ، ثم البيهقي في " سننهما " عن جابر الجعفي عن الشعبي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا يؤمن أحد بعدي جالسا }.

                                                                                                        قال الدارقطني : لم يروه عن الشعبي غير جابر الجعفي ، وهو متروك ، والحديث مرسل لا تقوم به حجة . انتهى .

                                                                                                        وقال عبد الحق في " أحكامه " : ورواه عن الجعفي مجالد ، وهو أيضا ضعيف . انتهى .

                                                                                                        وقال البيهقي في " المعرفة " : الحديث مرسل لا تقوم به حجة ، وفيه جابر الجعفي ، وهو متروك في روايته مذموم في رأيه ، ثم قد اختلف عليه فيه ، فرواه [ ص: 58 ] ابن عيينة عنه ، كما تقدم ، ورواه ابن طهمان عنه عن الحكم ، قال : كتب عمر : لا يؤمن أحد جالسا بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا مرسل موقوف ، ثم أسند عن الشافعي ثنا عبد الوهاب الثقفي عن يحيى بن سعيد عن أبي الزبير { عن جابر أنه صلى ، وهو مريض جالسا ، وصلى الناس خلفه جلوسا }.

                                                                                                        وأخبرنا الثقفي عن يحيى بن سعيد أن أسيد بن حضير فعل مثل ذلك ، قال الشافعي : وإنما فعلا مثل ذلك ، لأنهما لم يعلما بالناسخ ، وكذلك ما حكي عن غيرهم من الصحابة أنهم أموا جالسين ، ومن خلفهم جلوس ، محمول على أنه لم يبلغهم النسخ ، وعلم الخاصة يوجد عند بعض ، ويعزب عن بعض . انتهى .

                                                                                                        وقال الحازمي في " كتابه الناسخ والمنسوخ " : اختلف الناس في " الإمام " يصلي بالناس جالسا من مرض ، فقالت طائفة : يصلون قعودا ، اقتداء به ، واحتجوا بحديث عائشة . وحديث أنس : وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون ، وقد فعله أربعة من الصحابة : جابر بن عبد الله وأبو هريرة وأسيد بن حضير وقيس بن فهد ، وقال أكثر أهل العلم : يصلون قياما : ولا يتابعونه في الجلوس .

                                                                                                        وبه قال أبو حنيفة والشافعي ، وادعوا نسخ تلك الأحاديث بأحاديث أخرى : منها حديث عائشة في " الصحيحين " أنه عليه السلام { صلى بالناس جالسا ، وأبو بكر خلفه قائم } ، يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يقتدون بصلاة أبي بكر ، وليس المراد أن أبا بكر كان إماما حقيقة ، لأن الصلاة لا تصح بإمامين ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان الإمام ، وأبو بكر كان يبلغ الناس ، فسمي لذلك إماما ، والله أعلم . انتهى كلامه .

                                                                                                        واعلم أنه لا يقوى الاحتجاج على أحمد بحديث عائشة المذكور : { أنه عليه السلام صلى جالسا ، والناس خلفه قيام } ، بل ولا يصلح ، لأنه يجوز صلاة القائم خلف من شرع في صلاته قائما ، ثم قعد لعذر ، ويجعلون هذا منه ، سيما ، وقد ورد في بعض طرق الحديث : { أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ في القراءة من حيث انتهى إليه أبو بكر } ، رواه الدارقطني في " سننه " . وأحمد في " مسنده " ، قال ابن القطان في " كتابه الوهم والإيهام " : وهي رواية مرسلة ، فإنها ليست من رواية ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما رواها ابن عباس عن أبيه العباس عن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك رواه البزار في " مسنده " بسند فيه قيس بن الربيع ، وهو ضعيف ، ثم ذكر له مثالب في دينه .

                                                                                                        قال : وكان ابن عباس كثيرا ما يرسل ، ولا يذكر من حدثه ، حتى قالوا : إن جميع مسموعاته سبعة عشر حديثا ، وقيل : أكثر من ذلك ، [ ص: 59 ] جمعها الحميدي وغيره ، والصحيح الذي ينبغي العمل به ، هو أن يحمل أحاديثه كلها على السماع المتصل ، حتى يظهر من دليل خارج ، أنه سمع هذا الحديث بواسطة ، فيقال حينئذ : إنه مرسل ، وذلك نحو هذا الحديث . انتهى .

                                                                                                        وحديث العباس هذا الذي أشار إليه ، رواه البزار في " مسنده " من حديث قيس عن عبد الله بن أبي السفر عن أرقم بن شرحبيل عن ابن عباس عن العباس ، قال : { خرج النبي صلى الله عليه وسلم . وأبو بكر يصلي بالناس ، فقرأ من حيث انتهى إليه أبو بكر }انتهى .

                                                                                                        قال البزار لا نعلم هذا الكلام يروى إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد . انتهى . قلت : رواه ابن ماجه من غير طريق قيس ، فقال : حدثنا علي بن محمد ثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن الأرقم بن شرحبيل عن ابن عباس ، قال : { لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره ، إلى أن قال ابن عباس : وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في القراءة من حيث كان بلغ أبو بكر }.

                                                                                                        قال وكيع : وكذا السنة ، مختصر .




                                                                                                        الخدمات العلمية