الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                        [ ص: 358 - 360 ] باب الشهيد ( الشهيد : من قتله المشركون ، أو وجد في المعركة وبه أثر ، أو قتله المسلمون ظلما ، ولم يجب بقتله دية ; فيكفن ويصلى عليه ولا يغسل ) لأنه في معنى شهداء أحد ، وقال صلى الله عليه وسلم فيهم { زملوهم بكلومهم ودمائهم ولا تغسلوهم }فكل من قتل بالحديدة ظلما ، وهو طاهر بالغ ، ولم يجب به عوض مالي فهو في معناهم ; فيلحق بهم ، والمراد بالأثر الجراحة لأنها دلالة القتل ، وكذا خروج الدم من موضع غير معتاد كالعين ونحوها ، والشافعي رحمه الله يخالفنا في الصلاة ويقول : السيف محاء للذنوب فأغنى عن الشفاعة ، ونحن نقول : الصلاة على الميت لإظهار كرامته ، والشهيد أولى بها ، والطاهر عن الذنوب لا يستغني عن الدعاء كالنبي والصبي . ( ومن قتله أهل الحرب أو أهل البغي أو قطاع الطريق فبأي شيء قتلوه لم يغسل ) لأن شهداء أحد ما كان كلهم قتيل السيف والسلاح .

                                                                                                        ( وإذا استشهد الجنب غسل عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا : لا يغسل ) لأن ما وجب بالجنابة سقط بالموت ، والثاني : لم يجب للشهادة ، ولأبي حنيفة رحمه الله أن الشهادة عرفت مانعة غير رافعة فلا ترفع الجنابة . [ ص: 361 - 368 ] وقد صح أن حنظلة لما استشهد جنبا غسلته الملائكة . وعلى هذا الخلاف الحائض والنفساء إذا طهرتا ، وكذا قبل الانقطاع في الصحيح من الرواية ، وعلى هذا الخلاف الصبي ، لهما أن الصبي أحق بهذه الكرامة ، وله أن السيف كفى عن الغسل في حق شهداء أحد بوصف كونه طهرة ، ولا ذنب على الصبي فلم يكن في معناهم .

                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                        باب الشهيد

                                                                                                        الحديث الأول : { قال عليه السلام في شهداء أحد زملوهم بكلومهم [ ص: 361 ] ودمائهم ، ولا تغسلوهم } ، قلت : حديث غريب ، وفي ترك غسل الشهداء أحاديث : منها ما أخرجه البخاري في " صحيحه " ، وأصحاب السنن الأربعة عن الليث بن سعد رضي الله عنه عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد ، ويقول : أيهما أكثر أخذا للقرآن ، فإذا أشير له إلى أحدهما ، قدمه في اللحد ، وقال : أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة ، وأمر بدفنهم في دمائهم ، ولم يغسلهم } ، زاد البخاري ، والترمذي رحمهما الله{ ولم يصل عليهم }. انتهى .

                                                                                                        قال الترمذي : حديث حسن صحيح ، وقال النسائي : لا أعلم أحدا تابع الليث من أصحاب الزهري على هذا الإسناد ، واختلف عليه فيه . انتهى .

                                                                                                        ولم يؤثر عند البخاري ، والترمذي تفرد الليث بهذا الإسناد ، بل احتج به البخاري في " صحيحه " ، وصححه الترمذي ، والله أعلم .

                                                                                                        { حديث آخر } : رواه أبو داود في " سننه " حدثنا زياد بن أيوب ثنا عيسى بن عاصم عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : { أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود ، وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم }. انتهى . وأعله النووي بعطاء .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه أبو داود أيضا عن جابر ، قال : { رمي رجل بسهم في صدره ، أو في حلقه ، فمات ، فأدرج في ثيابه ، كما هو ، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم }. انتهى . قال النووي في " الخلاصة " : سنده على شرط مسلم .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه النسائي في " سننه " عن معمر عن الزهري عن عبد الله بن ثعلبة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { زملوهم بدمائهم ، فإنه ليس كلم يكلم في سبيل [ ص: 362 ] الله ، إلا يأتي يوم القيامة يدمى ، لونه لون الدم ، والريح ريح المسك }. انتهى . ورواه أحمد في مسنده : حدثنا سفيان عن الزهري عن عبد الله بن ثعلبة { أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف على قتلى أحد ، فقال : إني شهيد على هؤلاء ، زملوهم بكلومهم ودمائهم }. انتهى . وبهذا السند رواه الشافعي رضي الله عنه ، ومن طريقه البيهقي .

                                                                                                        أحاديث الصلاة على الشهيد : روى البخاري في " صحيحه في المغازي ، في غزوة أحد " ، ومسلم في " فضائل النبي صلى الله عليه وسلم " من حديث أبي الخير عن عقبة بن عامر الجهني { أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوما ، فصلى على شهداء أحد صلاته على الميت ، ثم انصرف } ، انتهى . زاد فيه مسلم : { فصعد المنبر ، كالمودع للأحياء والأموات ، فقال : إني فرطكم على الحوض ، ولست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي ، ولكن أخشى أن تنافسوا في الدنيا ، وتقتتلوا فتهلكوا ، كما هلك من قبلكم ، قال عقبة : فكانت لآخر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر }انتهى . زاد ابن حبان : { ثم دخل بيته ، فلم يخرج حتى قبضه الله عز وجل }.

                                                                                                        ومن الناس من يحمل الصلاة في هذا الحديث على الدعاء ، ومنهم البيهقي وابن حبان في " صحيحه " . وقوله فيه : صلاته على الميت ، يدفعه ، لكن قد يقال : إنه من الخصائص ، لأنه عليه السلام قصد بها التوديع ، كما صرح به في " الصحيح " ، ويؤيد هذا أنه ورد في لفظ البخاري { أنه عليه السلام صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين ، كالمودع للأحياء والأموات }. قال ابن حبان رحمه الله في " صحيحه " : المراد بالصلاة في هذا الحديث الدعاء ، إذ لو كان المراد حقيقة الصلاة للزم من يقول بها ، أن يجوز الصلاة على الميت بعد دفنه بسنين ، فإن وقعة أحد كانت سنة ثلاث من الهجرة ، وهذه الصلاة حين خروجه من الدنيا بعد وقعة أحد بسبع سنين ، وهو لا يقول بذلك . انتهى .

                                                                                                        وقد ناقض ابن حبان هذا في أحاديث الصلاة في الكعبة ، فقال : زعم أئمتنا أن بلالا أثبتها ، وابن عباس نفاها ، والمثبت مقدم على النافي ، وهذا شيء يلزمنا في شهداء أحد ، فإن ابن عباس [ ص: 363 ] وغيره رووا أنه عليه السلام صلى عليهم ، وجابر روى أنه لم يصل عليهم ، أو يكون عليه السلام قصد بالصلاة عليهم أن ينور عليهم قبورهم ، كما ورد في البخاري . ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ، { أن النبي عليه السلام صلى على قبر امرأة ، أو رجل كان يقم المسجد ، ثم قال : إن هذه القبور مملوءة على أهلها ظلمة ، وإني أنورها بصلاتي عليهم }. انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه الحاكم في " المستدرك " عن أبي حماد الحنفي ، واسمه : المفضل بن صدقة عن ابن عقيل ، قال : سمعت جابر بن عبد الله ، يقول : { فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة حين قام الناس من القتال ، فقال رجل : رأيته عند تلك الشجرات ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه ، فلما رآه ورأى ما مثل به ، شهق وبكى ، فقام رجل من الأنصار ، فرمى عليه بثوب ، ثم جيء بحمزة ، فصلى عليه ، ثم جيء بالشهداء ، فيوضعون إلى جانب حمزة ، فصلى عليهم ، ثم يرفعون ، ويترك حمزة ، حتى صلى على الشهداء كلهم ، وقال صلى الله عليه وسلم : حمزة سيد الشهداء عند الله يوم القيامة }مختصر ، وقال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه ، وتعقبه الذهبي في " مختصره " ، فقال : أبو حماد الحنفي قال النسائي فيه : متروك . انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } : رواه أحمد في " مسنده " حدثنا عفان بن مسلم ثنا حماد بن سلمة ثنا عطاء بن السائب عن الشعبي عن ابن مسعود ، قال : { كان النساء يوم أحد خلف المسلمين يجهزن على جرحى المشركين ، إلى أن قال : فوضع النبي صلى الله عليه وسلم حمزة ، وجيء برجل من الأنصار ، فوضع إلى جنبه ، فصلى عليه ، فرفع الأنصاري ، وترك حمزة ، ثم جيء بآخر ، فوضع إلى جنب حمزة ، فصلى عليه ، ثم رفع ، وترك حمزة ، حتى صلى عليه يومئذ سبعين صلاة } ، مختصر . ورواه عبد الرزاق في " مصنفه " عن الشعبي مرسلا ، لم يذكر فيه ابن مسعود .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه أبو داود في " سننه " عن عثمان بن عمر ثنا أسامة بن زيد عن [ ص: 364 ] الزهري عن أنس رضي الله عنهم { أن النبي عليه السلام مر بحمزة ، وقد مثل به ، ولم يصل على أحد من الشهداء غيره } ، ورواه الدارقطني في " سننه " ، وقال : لم يقل فيه : ولم يصل على أحد من الشهداء غيره إلا عثمان بن عمر ، وليست بمحفوظة انتهى .

                                                                                                        قال ابن الجوزي رحمه الله في " التحقيق " : وعثمان بن عمر مخرج له في " الصحيحين " وزيادة من الثقة مقبولة . انتهى .

                                                                                                        وذكره عبد الحق في " أحكامه " من جهة أبي داود ، وقال : الصحيح حديث البخاري ، { أنه لم يصل على الشهداء }. انتهى .

                                                                                                        قال ابن القطان في " كتابه " : وعلته ضعف أسامة بن زيد الليثي ، وقد ذكر عبد الحق هذا الحديث في " أحكامه الكبرى " وأتبعه بالكلام في أسامة ، وقال : وثقه ابن معين ، وضعفه يحيى بن سعيد ، روى عنه الثوري وعبد الله بن المبارك ، ومن الأحاديث التي صححها وهي من رواية أسامة حديث { أنه عليه السلام كان يأخذ من طول لحيته وعرضها } ، وحديث أبي مسعود في الأوقات ، وغير ذلك . انتهى كلامه . ورواه أحمد في " مسنده " حدثنا صفوان بن عيسى ثنا أسامة بن زيد به ، وأخرجه الحاكم في " المستدرك " عن عثمان بن عمر . وروح عن أسامة به ، وقال : على شرط مسلم . انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه الدارقطني في " سننه " عن إسماعيل بن عياش عن عبد الملك بن أبي غنية أو غيره عن الحكم بن عتيبة عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنه قال : { لما انصرف المشركون عن قتلى أحد ، إلى أن قال : ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة فكبر عليه عشرا ، ثم جعل يجاء بالرجل ، فيوضع ، وحمزة مكانه ، حتى صلى عليه سبعين صلاة ، وكانت القتلى يومئذ سبعين } ، ثم قال : لم يروه غير إسماعيل بن عياش ، وهو مضطرب الحديث عن غير الشاميين انتهى . طريق آخر : أخرجه الحاكم في " المستدرك " والطبراني في " معجمه " والبيهقي في " السنن " عن يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس ، قال : { أمر رسول [ ص: 365 ] الله صلى الله عليه وسلم بحمزة يوم أحد فهيئ للقبلة ، ثم كبر عليه سبعا ، ثم جمع إليه الشهداء حتى صلى عليه سبعين صلاة } ، زاد الطبراني : { ثم وقف عليهم حتى واراهم } ، سكت الحاكم عنه .

                                                                                                        وتعقبه الذهبي ، فقال : ويزيد بن أبي زياد لا يحتج به . وقال البيهقي : هكذا رواه يزيد بن أبي زياد ، وحديث جابر { أنه لم يصل عليهم }. انتهى .

                                                                                                        ورواه ابن ماجه في " سننه " بهذا الإسناد ، وقال : { أتي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، فجعل يصلي على عشرة ، وحمزة كما هو يرفعون وهو كما هو موضوع }انتهى .

                                                                                                        قال ابن الجوزي رحمه الله في " التحقيق " : ويزيد بن أبي زياد منكر الحديث .

                                                                                                        وقال النسائي : متروك الحديث ، وتعقبه صاحب " التنقيح " رحمه الله بأن ما حكاه عن البخاري ، والنسائي إنما هو في يزيد بن زياد ، وأما راوي هذا الحديث ، فهو الكوفي ، ولا يقال فيه : ابن زياد . وإنما هو ابن أبي زياد ، وهو ممن يكتب حديثه على لينه ، وقد روى له مسلم مقرونا بغيره ، وروى له أصحاب السنن ، وقال : أبو داود : لا أعلم أحدا ترك حديثه ، وقد جعلهما في " كتابه " الذي في الضعفاء واحدا ، وهو وهم . انتهى .

                                                                                                        طريق آخر : أخرجه الدارقطني رحمه الله في " سننه " عن عبد العزيز بن عمران حدثني أفلح بن سعيد عن محمد بن كعب عن ابن عباس ، قال : { أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمزة يوم أحد }باللفظ الذي قبله ، سواء ، ثم قال : وعبد العزيز هذا ضعيف . طريق آخر رواه ابن هشام في " السيرة " عن ابن إسحاق : حدثني من لا أتهم عن مقسم مولى ابن عباس عن ابن عباس ، قال : { أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمزة رضي الله عنه فجيء ببردة ، ثم صلى عليه ، وكبر سبع تكبيرات ، ثم أتي بالقتلى يوضعون إلى حمزة ، يصلي عليهم ، وعليه معهم ، حتى صلى عليه ثنتين وسبعين صلاة } ، مختصر ، قال السهيلي في " الروض الأنف " : قول ابن إسحاق في هذا الحديث ، حدثني من لا أتهم ، إن كان هو الحسن بن عمارة ، كما قاله بعضهم ، فهو ضعيف بإجماع أهل الحديث ، وإن كان غيره ، فهو مجهول ، ولم يرو عن النبي عليه السلام أنه صلى على شهيد في [ ص: 366 ] شيء من مغازيه ، إلا في هذه الرواية ، ولا في مدة الخليفتين من بعده . انتهى كلامه . قلت : قد ورد مصرحا فيه بالحسن بن عمارة ، كما رواه الإمام أبو قرة موسى بن طارق الزبيدي في " سننه " عن الحسن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة عن مجاهد عن ابن عباس ، قال : { لما انصرف المشركون من قتلى أحد أشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم على القتلى ، فرأى منظرا ساءه ، فرأى حمزة قد شق بطنه ، واصطلم أنفه ، وجدعت أذناه ، فقال : لولا أن يحزن النساء ، أو يكون سنة بعدي لتركته ، حتى يحشره الله في بطون السباع ، والطير ، ولمثلت بثلاثين منهم مكانه ، ثم دعا ببردة ، فغطى بها وجهه ، فخرجت رجلاه ، فغطى بها رجليه ، فخرج رأسه ، فغطى بها رأسه ، وجعل على رجليه من الإذخر ، ثم قدمه ، فكبر عليه عشرا ، ثم جعل يجاء بالرجل فيوضع إلى جنبه فيصلي عليه ، ثم يرفع ، ويجاء بالرجل الآخر ، فيوضع ،وحمزة مكانه ، حتى صلى عليه سبعين صلاة ، وكانت القتلى سبعين ، فلما دفنوا . وفرغ منهم ، نزلت هذه الآية { وإن عاقبتم فعاقبوا }الآية ، فصبر عليه السلام ، ولم يقتل ، ولم يعاقب }. انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } مرسل : أخرجه أبو داود في " مراسيله " عن حصين عن أبي مالك الغفاري ، { أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد عشرة عشرة في كل عشرة حمزة رضي الله عنه صلى عليه سبعين صلاة }انتهى . وحصين ، هو : ابن عبد الرحمن الكوفي أحد الثقات ، المخرج لهم في " الصحيحين " . وابن مالك الغفاري ، اسمه : غزوان ، هو تابعي ، روى عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ، ووثقه يحيى بن معين ، والله أعلم .

                                                                                                        قال البيهقي في " المعرفة " : وهذا الحديث مع إرساله لا يستقيم ، كما قاله الشافعي ، قال : كيف يستقيم أنه عليه السلام صلى على حمزة سبعين صلاة ، إذا كان يؤتى بتسعة ، وحمزة عاشرهم ، وشهداء أحد إنما كانوا اثنين وسبعين شهيدا ، فإذا صلى عليهم عشرة عشرة ، فالصلاة إنما تكون سبع صلاة ، أو ثمانيا ، فمن أين جاءت سبعون صلاة ؟ ، قال البيهقي : وأما رواية ابن إسحاق عن بعض أصحابه عن مقسم عن ابن عباس ، فذكر نحو ذلك ، فهو منقطع ، ولا يعرج بما يرويه ابن إسحاق إذا لم يذكر اسم راويه ، لكثرة روايته عن الضعفاء المجهولين ، والأشبه أن تكون الروايتان غلطا ، لمخالفتهما الرواية الصحيحة عن جابر أنه عليه السلام لم يصل عليهم ، وهو كان قد شهد [ ص: 367 ] القصة ، وأما ما روى البخاري عن عقبة بن عامر { أنه عليه السلام صلى على قتلى أحد صلاته على الميت } ، فكأنه عليه السلام وقف على قبورهم ، ودعا لهم ، ولا يدل ذلك على نسخ ، وأما ما روي عن شداد بن الهاد في صلاة النبي عليه السلام على أعرابي أصابه سهم ، فيحتمل أن يكون بقي حيا حتى انقطعت الحرب ، ونحن نصلي على المريث ، وعلى الذي يقتل ظلما في غير معرك . انتهى .

                                                                                                        قلت : يستقيم هذا على الرواية الأخرى ، أنه كان يصلي عليه ، وعلى آخر معه ، حتى صلى عليه سبعين صلاة ، كما تقدم في مسند أحمد وغيره وأما كون شهداء أحد كانوا سبعين رجلا فمسلم ، ذكره ابن هشام في السيرة ، نقلا عن ابن إسحاق ، وسماهم بأسمائهم ، واحدا بعد واحد .

                                                                                                        وقال ابن سعد في " الطبقات " أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يونس ثنا أبو الأحوص ثنا سعيد بن مسروق عن أبي الضحى ، قال : قتل يوم أحد سبعون رجلا ، منهم أربعة من المهاجرين : حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير ، وشماس بن عثمان المخزومي . وعبد الله بن جحش الأسدي . انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } مرسلا : أخرجه أبو داود في " المراسيل " عن عطاء بن أبي رباح { أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد }. انتهى .

                                                                                                        حديث آخر : أخرجه النسائي عن شداد بن الهاد التابعي { أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه ، وذكر الحديث ، وفيه : أنه استشهد ، فصلى عليه النبي عليه السلام }.

                                                                                                        { حديث آخر } : رواه الواقدي في كتاب المغازي حدثني الثوري عن الزبير بن عدي عن عطاء { أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى بدر }. انتهى .

                                                                                                        وحدثني عبد ربه بن عبد الله عن عطاء عن ابن عباس مثله . انتهى .

                                                                                                        وفيه أيضا في غزوة أحد من غير سند ، { قال جابر بن عبد الله : كان أبي أول قتيل قتل من المسلمين يوم أحد ، قتله سفيان بن عبد شمس ، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهزيمة }. انتهى .

                                                                                                        [ ص: 368 ] حديث آخر } : روى الواقدي رحمه الله في " كتاب فتوح الشام " حدثني رويم بن عامر عن سعيد بن عاصم عن عبد الرحمن بن بشار عن الواقصي عن سيف مولى ربيعة بن قيس اليشكري قال : كنت في الجيش الذي وجهه أبو بكر الصديق رضي الله عنهم ع عمرو بن العاص إلى أيلة ، وأرض فلسطين ، فذكر القصة بطولها ، إلى أن قال : فلما نصر الله المسلمين وانكشف القتال ، لم يكن هم المسلمين إلا افتقاد بعضهم بعضا ، ففقدوا من المسلمين مائة وثلاثين نفرا : منهم سيف بن عباد الحضرمي ونوفل بن دارم وسالم بن دويم وسعيد بن خالد ، وهو ابن أخي عمرو بن العاص لأمه ، واغتم عمرو بن العاص لفقدهم اغتماما شديدا ، فلما أصبح النهار أمر عمرو الناس بجمع الغنائم ، وأن يخرجوا إخوانهم من بين الروم ، وبني الأصفر ، فالتقطوهم ، مائة وثلاثين رجلا ، ثم صلى عليهم عمرو بن العاص ، ومن معه من المسلمين ، ثم أمر بدفنهم ، وكان مع عمرو بن العاص من المسلمين تسعة آلاف رجل ، وأرسل عمرو إلى أبي بكر رضي الله عنهما كتابا ، فيه : الحمد لله ، والصلاة على نبيه ، إني وصلت إلى أرض فلسطين ، ولقينا عسكر الروم ، مع بطريق يقال له : روماس في مائة ألف رجل ، فمن الله علينا بالنصر ، وقتلنا منهم أحد عشر ألفا ، وقتل من المسلمين مائة وثلاثون رجلا ، أكرمهم الله بالشهادة . انتهى .

                                                                                                        أحاديث الخصوم : حديث جابر { أنه عليه السلام لم يصل على قتلى أحد } ، رواه البخاري رضي الله عنه وحديث آخر : أخرجه أبو داود من طريق ابن وهب ، أخبرني أسامة بن زيد الليثي ، أن ابن شهاب أخبره أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثه { أن شهداء أحد لم يغسلوا ، ودفنوا بدمائهم ، ولم يصل عليهم }. انتهى . قوله : وقد صح أن حنظلة لما استشهد جنبا غسلته الملائكة ، قلت : روي من [ ص: 369 ] حديث ابن الزبير ، ومن حديث ابن عباس ، ومن حديث محمود بن لبيد . فحديث ابن الزبير رضي الله عنهما : أخرجه ابن حبان في " صحيحه " في النوع الثامن ، من القسم الثالث . والحاكم في " المستدرك " في " كتاب الفضائل " من طريق ابن إسحاق حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده ، قال : { سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول ، وقد قتل حنظلة بن أبي عامر الثقفي : إن صاحبكم حنظلة تغسله الملائكة ، فاسألوا صاحبته فقالت : خرج ، وهو جنب لما سمع الهائعة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لذلك غسلته الملائكة }. انتهى . قال الحاكم : صحيح على شرط مسلم . انتهى .

                                                                                                        وليس عنده : فاسألوا صاحبته ، إلى آخره ، قال السهيلي في " الروض الأنف " : وصاحبته هي زوجته ، جميلة بنت أبي ابن سلول ، أخت عبد الله بن أبي ، وكانت قد ابتنى بها تلك الليلة ، فرأت في منامها ، كأن بابا من السماء فتح ، فدخل ، وأغلق دونه ، فعرفت أنه مقتول من الغد ، فلما أصبحت دعت برجال من قومها ، وأشهدتهم أنه دخل بها ، خشية أن يقع في ذلك نزاع ، ذكره الواقدي ، وذكر غيره أنه وجد بين القتلى ، يقطر رأسه ماء ، تصديقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهذا الخبر تعلق من يقول : إن الشهيد يغسل إذا كان جنبا انتهى .

                                                                                                        وهذا الذي نقله عن الواقدي صحيح ، نقله ابن سعد عنه في " الطبقات في ترجمة حنظلة " ، وزاد : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إني رأيت الملائكة تغسل حنظلة بن أبي عامر بين السماء والأرض ، بماء المزن ، في صحاف الفضة ، قال أبو أسيد الساعدي : فذهبنا إليه ، فوجدناه يقطر رأسه ماء ، فرجعت ، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إلى زوجته ، فذكرت أنه خرج ، وهو جنب }. انتهى .

                                                                                                        ولفظ الواقدي في " كتاب المغازي " ، قال : وكان حنظلة بن أبي عامر ، تزوج جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول ، ودخل عليها ليلة قتال أحد ، بعد أن استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصبح جنبا ، وأخذ سلاحه ، ولحق بالمسلمين ، وأرسلت إلى أربعة من قومها ، فأشهدتهم أنه قد دخل بها ، فسألوها ، فقالت : رأيت في ليلتي ، كأن [ ص: 370 ] السماء فتحت ، ثم أدخل ، وأغلقت دونه ، فعرفت أنه مقتول من الغد ، وتزوجها بعده ثابت بن قيس ، فولدت له محمد بن ثابت بن قيس ، فلما انكشف المشركون ، اعترض حنظلة لأبي سفيان ، يريد قتله ، فحمل عليه الأسود بن شعوب بالرمح ، فقتله ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إني رأيت الملائكة تغسل حنظلة بن أبي عامر بين السماء والأرض ، بماء المزن ، في صحاف الفضة ، قال أبو أسيد الساعدي : فذهبنا ، فنظرنا إليه ، فإذا رأسه يقطر ماء ، قال أبو أسيد : فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فأرسل إلى امرأته ، فسألها ، فأخبرته أنه خرج ، وهو جنب }. انتهى .

                                                                                                        وأما حديث ابن عباس : فرواه الطبراني في " معجمه " من حديث شريك عن الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس ، قال { أصيب حمزة بن عبد المطلب ، وحنظلة بن الواهب ، وهما جنبان ، فقال النبي عليه السلام : إنى رأيت الملائكة تغسلهما }انتهى . ورواه البيهقي في " سننه " من حديث أبي شيبة عن الحكم به ، نحوه ، والسندان ضعيفان ، وخبر حمزة ذكره الواقدي رحمه الله في " المغازي " ، قال : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رأيت الملائكة تغسل حمزة ، لأنه كان جنبا ذلك اليوم ، ولم يغسل الشهداء ، وقال : لفوهم بدمائهم ، وجراحهم ، فإنه ليس أحد يجرح في الله ، إلا جاء يوم القيامة ، وجرحه يثعب دما ، لونه لون الدم ، وريحه ريح المسك }. انتهى .

                                                                                                        وأما حديث محمود بن لبيد : فرواه ابن إسحاق في " المغازي " حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن صاحبكم يعني حنظلة بن أبي عامر لتغسله الملائكة ، فاسألوا أهله ما شأنه ؟ فقالت : إنه خرج ، وهو جنب حين سمع الهائعة }. انتهى .

                                                                                                        ومن طريق ابن إسحاق ، رواه أبو نعيم في " الحلية في ترجمة أصحاب الصفة " ، وذكره ابن هشام في " السيرة في غزوة أحد " من قول ابن إسحاق ، لم يسنده إلى محمود بن لبيد ، إلا أنه قال : حين سمع الهائعة ، قال : ويقال : الهائعة ، والهيعة : وهي الصوت الشديد عند الفزع ، قال : ومنه الحديث : { خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه ، إذا سمع هيعة طار إليها }. انتهى . وأحمد مع أبي حنيفة [ ص: 371 ] رضي الله عنهما ، في الجنب يغسل ، ومالك والشافعي رضي الله عنهما ، مع الصاحبين رحمهم اللهوأما المرسل : فرواه الإمام قاسم بن ثابت السرقسطي في " آخر كتابه غريب الحديث " حدثنا عبد الله بن علي ثنا محمد بن يحيى ثنا إبراهيم بن يحيى ثنا أبي عن محمد بن إسحاق عن محمد بن مسلم الزهري عن عروة بن الزبير ، قال : { خرج حنظلة بن أبي عامر رضي الله عنهم ع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد واقع امرأته فخرج ، وهو جنب لم يغتسل ، فلما التقى الناس لقي حنظلة ، أبو سفيان بن حرب ، فحمل عليه ، فسقط أبو سفيان عن فرسه ، فوثب عليه حنظلة ، وقعد على صدره يذبحه ، فمر به جعونة بن شعوب الكناني ، فاستغاث به أبو سفيان ، فحمل على حنظلة ، فقتله ، وهو يرتجز ، ويقول :

                                                                                                        لأحمين صاحبي ونفسي بطعنة مثل شعاع الشمس

                                                                                                        }




                                                                                                        الخدمات العلمية