الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وليشتغل بالتخريج ، والتأليف ، والتصنيف إذا استعد لذلك ، وتأهل له ، فإنه - كما قال ‏الخطيب الحافظ‏ - يثبت الحفظ ، ويذكي القلب ، ويشحذ الطبع ، ويجيد البيان ، ويكشف الملتبس ، ويكسب جميل الذكر ، ويخلده إلى آخر الدهر ، وقل ما يمهر في علم الحديث ، ويقف على غوامضه ، ويستبين الخفي من فوائده إلا من فعل ذلك‏ . ‏

وحدث الصوري الحافظ‏ ‏محمد بن علي‏ قال‏ : " رأيت ‏أبا محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ‏ في المنام ، فقال لي‏ : يا ‏أبا عبد الله‏ ، خرج ، وصنف قبل أن يحال بينك وبينه ، هذا أنا تراني قد حيل بيني وبين ذلك‏ " . ‏

[ ص: 253 ] وللعلماء بالحديث في تصنيفه طريقتان‏ :

إحداهما‏ : التصنيف على الأبواب ، وهو تخريجه على أحكام الفقه ، وغيرها ، وتنويعه أنواعا وجمع ما ورد في كل حكم ، وكل نوع في باب فباب‏ . ‏

والثانية‏ : تصنيفه على المسانيد ، وجمع حديث كل صحابي وحده ، وإن اختلفت أنواعه‏ ، ولمن اختار ذلك أن يرتبهم على حروف المعجم في أسمائهم‏ ، وله أن يرتبهم على القبائل ، فيبدأ ببني هاشم ، ثم بالأقرب ، فالأقرب نسبا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وله أن يرتب على سوابق الصحابة ، فيبدأ بالعشرة ، ثم بأهل بدر ، ثم بأهل الحديبية ، ثم بمن أسلم ، وهاجر بين الحديبية ، وفتح مكة ، ويختم بأصاغر الصحابة كأبي الطفيل ، ونظرائه ، ثم بالنساء ، وهذا أحسن ، والأول أسهل‏ ، وفي ذلك من وجوه الترتيب غير ذلك‏ . ‏

ثم إن من أعلى المراتب في تصنيفه تصنيفه معللا ، بأن يجمع في كل حديث طرفه ، واختلاف الرواة فيه ، كما فعل ‏يعقوب بن شيبة‏ في مسنده‏ . ‏

ومما يعتنون به في التأليف جمع الشيوخ ، أي : جمع حديث شيوخ مخصوصين كل واحد منهم على انفراده‏ . ‏ قال ‏عثمان بن سعيد [ ص: 254 ] الدارمي‏‏‏ : " يقال : من لم يجمع حديث هؤلاء الخمسة فهو مفلس في الحديث‏ : ‏سفيان‏‏ ، و‏‏شعبة‏‏ ، و‏‏مالك‏‏ ، و‏حماد بن زيد‏‏ ، و‏‏ابن عيينة ‏‏ ، وهم أصول الدين‏ " . ‏

وأصحاب الحديث يجمعون حديث خلق كثير غير الذين ذكرهم الدارمي ، منهم‏ : ‏أيوب السختياني‏‏ ، و‏الزهري ‏‏ ، و‏‏الأوزاعي ‏‏‏ . ‏

ويجمعون أيضا التراجم ، وهي أسانيد يخصون ما جاء بها بالجمع ، والتأليف ، مثل ترجمة مالك عن نافع ، عن ابن عمر ، وترجمة سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، وترجمة هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، في أشباه لذلك كثيرة‏ . ‏

ويجمعون أيضا أبوابا من أبواب الكتب المصنفة الجامعة للأحكام ، فيفردونها بالتأليف ، فتصير كتبا مفردة نحو باب رؤية الله عز وجل ، وباب رفع اليدين ، وباب القراءة خلف الإمام ، وغير ذلك‏ . ‏

ويفردون أحاديث ، فيجمعون طرقها في كتب مفردة نحو‏ طرق حديث قبض العلم ، وحديث الغسل يوم الجمعة ، وغير ذلك‏ . ‏ وكثير من أنواع كتابنا هذا قد أفردوا أحاديثه بالجمع والتصنيف‏ . ‏

وعليه في كل ذلك تصحيح القصد ، والحذر من قصد المكاثرة ونحوه‏ . ‏

بلغنا عن ‏حمزة بن محمد الكناني‏‏‏ : أنه خرج حديثا واحدا من [ ص: 255 ] نحو مائتي طريق ، فأعجبه ذلك ، فرأى ‏يحيى بن معين في منامه ، فذكر له ذلك ، فقال له‏ : أخشى أن يدخل هذا تحت‏ : ( ‏‏ ألهاكم التكاثر ‏‏ ) ‏‏ . ‏

ثم ليحذر أن يخرج إلى الناس ما يصنفه إلا بعد تهذيبه ، وتحريره ، وإعادة النظر فيه ، وتكريره‏ . ‏

وليتق أن يجمع ما لم يتأهل بعد لاجتناء ثمرته ، واقتناص فائدة جمعه ، كيلا يكون حكمه ما رويناه عن ‏علي بن المديني ، قال‏ : إذا رأيت الحدث أول ما يكتب الحديث ، يجمع حديث الغسل ، وحديث‏ : " ‏من كذب‏ " فاكتب على قفاه " ‏لا يفلح‏ " ‏‏ . ‏

ثم إن هذا الكتاب مدخل إلى هذا الشأن ، مفصح عن أصوله وفروعه ، شارح لمصطلحات أهله ومقاصدهم ومهماتهم التي ينقص المحدث بالجهل بها نقصا فاحشا ، فهو إن شاء الله جدير بأن تقدم العناية به ، ونسأل الله سبحانه فضله العظيم ، وهو أعلم‏ . ‏

التالي السابق


الخدمات العلمية