الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 276 ] باب الربا

وعلته عندنا الكيل أو الوزن ( ف ) مع الجنس ، فإذا وجدا حرم التفاضل والنساء ، وإذا عدما حلا ، وإذا وجد أحدهما خاصة حل التفاضل وحرم النساء ( ف ) ، وجيد مال الربا ورديئه عند المقابلة بجنسه سواء ، وما ورد النص بكيله فهو كيلي أبدا ، وما ورد بوزنه فوزني أبدا; وعقد الصرف يعتبر فيه قبض عوضيه في المجلس ، وما سواه من الربويات يكفي فيه التعيين; ويجوز بيع فلس بفلسين بأعيانهما ( م ) ، ولا يجوز بيع الحنطة بالدقيق ولا بالسويق ولا بالنخالة ، ولا الدقيق بالسويق ( سم ) ، ويجوز بيع الرطب بالرطب وبالتمر ( سم ) متماثلا ، ويجوز بيع اللحم بالحيوان ( م ) ، ويجوز بيع الكرباس بالقطن ، ولا يجوز بيع الزيت بالزيتون ، ولا السمسم بالشيرج إلا بطريق الاعتبار ، ولا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب ( س ) ، ويكره السفاتج .

التالي السابق


باب الربا

وهو في اللغة : الزيادة ، ومنه الربوة للمكان الزائد على غيره في الارتفاع .

وفي الشرع : الزيادة المشروطة في العقد ، وهذا إنما يكون عند المقابلة بالجنس .

وقيل الربا في الشرع عبارة عن عقد فاسد بصفة سواء كان فيه زيادة أو لم يكن ، فإن بيع الدراهم بالدنانير نسيئة ربا ولا زيادة فيه . والأصل في تحريمه قوله تعالى :

[ ص: 276 ] ( وأحل الله البيع وحرم الربا ) وقوله : ( لا تأكلوا الربا ) والحديث المشهور ، وهو قوله - عليه الصلاة والسلام - : " الذهب بالذهب مثلا بمثل ، وزنا بوزن ، يدا بيد ، والفضل ربا ، والحنطة بالحنطة مثلا بمثل ، كيلا بكيل ، يدا بيد ، والفضل ربا ، والشعير بالشعير ، مثلا بمثل ، كيلا بكيل ، يدا بيد ، والفضل ربا ، والتمر بالتمر ، مثلا بمثل ، كيلا بكيل ، يدا بيد ، والفضل ربا ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، كيلا بكيل ، يدا بيد ، والفضل ربا " وأجمعت الأمة على تعدي الحكم منها إلى غيرها إلا ما يروى عن عثمان البتي ، وداود الظاهري ولا اعتماد عليه .

قال : ( وعلته عندنا الكيل أو الوزن مع الجنس ) لقوله - عليه الصلاة والسلام - في آخر الحديث : " وكذلك كل ما يكال ويوزن " رواها مالك بن أنس ، ومحمد بن إسحاق الحنظلي بين أن العلة هي الكيل والوزن ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - : " لا تبيعوا الصاع بالصاعين ، ولا الصاعين بالثلاثة " وهذا عام في كل مكيل سواء كان مطعوما أو لم يكن ، ولأن الحكم متعلق بالكيل والوزن ، إما إجماعا ، أو لأن التساوي حقيقة لا يعرف إلا بهما ، وجعل العلة ما هو متعلق الحكم إجماعا أو معرف للتساوي حقيقة أولى من المصير إلى ما اختلفوا فيه ، ولا يعرف التساوي [ ص: 277 ] حقيقة ، ولأن التساوي والمماثلة شرط لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " مثلا بمثل " وفي بعض الروايات : " سواء بسواء " أو صيانة لأموال الناس ، والمماثلة بالصورة والمعنى أتم وذلك فيما قلناه ، لأن الكيل والوزن يوجب المماثلة صورة ، والجنسية توجبها معنى فكان أولى .

وهذا أصل ينبني عليه عامة مسائل الربا ، فنذكر بعضها تنبيها على الباقي لمن يتأملها :

منها لو باع حفنة طعام بحفنتين ، أو تفاحة بتفاحتين يجوز لعدم الكيل والوزن ، وإذا ثبت أن العلة ما ذكرنا .

( فإذا وجدا حرم التفاضل والنساء ) عملا بالعلة .

( وإذا عدما حلا ) لعدم العلة المحرمة ، ولإطلاق قوله تعالى : ( وأحل الله البيع ) .

( وإذا وجد أحدهما خاصة حل التفاضل ، وحرم النساء ) أما إذا وجد المعيار وعدم الجنس ، كالحنطة بالشعير ، والذهب بالفضة ، فلقوله - عليه الصلاة والسلام - : " إذا اختلف الجنسان - ويروى النوعان - فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد " .

وأما إذا وجدت الجنسية وعدم المعيار كالهروي بالهروي ، فإن المعجل خير من المؤجل وله فضل عليه ، فيكون الفضل من حيث التعجيل ربا ؛ لأنه فضل يمكن الاحتراز عنه وهو مشروط في العقد فيحرم .

قال : ( وجيد مال الربا ورديئه عند المقابلة بجنسه سواء ) لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " جيدها ورديئها سواء ) ولأن في اعتباره سد باب البياعات فيلغو .

قال : ( وما ورد النص بكيله فهو كيلي أبدا ، وما ورد بوزنه فوزني أبدا ، اتباعا للنص .

وعن أبي يوسف أنه يعتبر فيه العرف أيضا ، لأن النص ورد على عادتهم فتعتبر العادة ، وما لا نص فيه يعتبر فيه العرف لأنه من الدلائل الشرعية .

[ ص: 278 ] قال : ( وعقد الصرف يعتبر فيه قبض عوضيه في المجلس ) لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " الفضة بالفضة هاء وهاء ، والذهب بالذهب هاء وهاء " أي يدا بيد .

( وما سواه من الربويات يكفي فيه التعيين ) لأنه يتعين بالتعيين ويتمكن من التصرف فيه ، فلا يشترط قبضه كالثياب بخلاف الصرف ، لأن القبض شرط فيه للتعيين ، فإنه لا يتعين بدون القبض على ما يأتي إن شاء الله تعالى ، ومعنى قوله - عليه الصلاة والسلام - : " يدا بيد " أي عينا بعين ، وهو كذلك في رواية ابن الصامت .

قال : ( ويجوز بيع فلس بفلسين بأعيانهما ) وقال محمد : لا يجوز لأنها أثمان فصارت كالدراهم والدنانير ، وكما إذا كانا بغير أعيانهما . ولهما أن ثمنيتها بالاصطلاح ، فيبطل به أيضا ، وقد اصطلحا على إبطالها ، إذ لا ولاية عليهما في هذا الباب ، بخلاف الدراهم والدنانير لأنها خلقت ثمنا ، وبخلاف ما إذا كانا بغير أعيانهما ؛ لأنه بيع الكالئ بالكالئ ، وهو منهي عنه .

قال : ( ولا يجوز بيع الحنطة بالدقيق ولا بالسويق ولا بالنخالة ، ولا الدقيق بالسويق ) والأصل فيه أن شبهة الربا ، وشبهة الجنسية ملحقة بالحقيقة في باب الربا احتياطا للحرمة ، وهذه الأشياء جنس واحد نظرا إلى الأصل ، والمخلص هو التساوي في الكيل ، وأنه متعذر لانكباس الدقيق في المكيال أكثر من غيره ، وإذا عدم المخلص حرم البيع; وكذا لا تجوز المقلية بغير المقلية ، ولا بالسويق والدقيق ، ولا المطبوخة بغير المطبوخة ، لتعذر التساوي بينهما بفعل العبد ، وفعله لا يؤثر في إسقاط ما شرط عليه ، ويجوز بيع المبلولة بمثلها وباليابسة ، والرطبة بمثلها [ ص: 279 ] وباليابسة لأن التفاوت بينهما بصنع الله تعالى فيجوز; وأما المبلولة فلأنها في الأصل خلقت ندية ، فالبل يعيدها إلى ما خلقت عليه كأنها لم تتغير فصارت كالسليمة بالمسوسة والعلكة بالرخوة .

وقال أبو يوسف ومحمد : يجوز بيع الدقيق بالسويق لأنهما جنسان نظرا إلى اختلاف المقصود ، وجوابه ما بينا ، ولأن معظم المقصود التغذي وهو يشملهما ، ويجوز بيع هذه الأشياء بعضها ببعض متماثلا للتساوي; ويجوز بيع الخبز بالدقيق والحنطة كيف كان لأنه عددي أو وزني بكلي ، وكذلك إذا كان أحدهما نسيئة والآخر نقدا ، وفي هذه المسائل اختلاف وتفصيل والفتوى على ما ذكرته .

قال : ( ويجوز بيع الرطب بالرطب وبالتمر متماثلا ) وكذا التمر بالبسر والرطب بالبسر ، لأن الجنس واحد باعتبار الأصل . قال - عليه الصلاة والسلام - : " التمر بالتمر مثلا بمثل " وصار كاختلاف أنواع التمر . وقال أبو يوسف ومحمد : لا يجوز بيع الرطب بالتمر لما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عنه فقال : ( أوينقص إذا جف ؟ " قالوا : نعم ، " قال : لا إذا " ولأن الرطب ينكبس أكثر من التمر .

ولأبي حنيفة ما روي أنه لما دخل العراق سئل عن ذلك ، فقال يجوز ، لأن الرطب إن كان من جنس التمر جاز لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " التمر بالتمر مثلا بمثل " وإن لم يكن تمرا جاز ، لقوله - عليه الصلاة والسلام - : 9 إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم " ورد ما روياه من الحديث ، وقال : مداره على زيد بن عياش وهو ضعيف ، حتى قال عبد الله بن المبارك : كيف يقال إن أبا حنيفة لا يعرف الحديث وقد عرف مثل هذا الإسناد ؟ ولأنه باع التمر بالتمر لأن الرطب تمر ، قال - عليه الصلاة والسلام - لما أهدي له رطب من خيبر : " أكل تمر خيبر هكذا ؟ " وقوله : الرطب ينكبس أكثر من التمر ، قلنا هذا التفاوت نشأ من الصفات الفطرية ، وأنه موضوع عنا فيما شرط علينا من رعاية المماثلة لأنه جاء من قبل صاحب الحق ، وقد تعذر الاحتراز عنه ، بخلاف ما إذا جاء من جهة العبد على ما مر آنفا

قال : ( ويجوز بيع اللحم بالحيوان ) وقال محمد : لا يجوز إذا باعه بجنسه إلا بطريق الاعتبار ، وهو أن يكون اللحم المفرز أكثر من اللحم الذي في الشاة ليكون الفاضل بالسقط تحرزا

[ ص: 280 ] عن الربا ، وهو زيادة السقط وصار كالزيت بالزيتون . ولهما أنه باع موزونا بعددي ، ولا يعرف ما فيه من اللحم بالوزن ، لأن الحيوان يخفف نفسه في الميزان مرة ويثقلها أخرى بخلاف الزيت والزيتون ، لأن ذلك يعرف عند أهل الخبرة به فافترقا .

قال : ( ويجوز بيع الكرباس بالقطن ) لاختلاف الجنس باعتبار المقصود والمعيار ، ولا خلاف فيه ، والقطن بالغزل يجوز عند محمد لما ذكرنا ، خلافا لأبي يوسف للمجانسة والفتوى على قول محمد .

قال : ( ولا يجوز بيع الزيت بالزيتون ، ولا السمسم بالشيرج إلا بطريق الاعتبار ) تحرزا عن الربا وشبهته ، وكذلك كل ما شابهه كالعنب بدبسه والجوز بدهنه وأمثاله ، واللحمان أجناس مختلفة يجوز بيع بعضها ببعض متفاضلا حتى لا يكمل نصاب بعضها من الآخر ، إلا أن البقر والجواميس جنس ، والمعز والضأن جنس ، والبخت والعراب جنس ، وكذلك الألبان والشحم والألية جنسان ، وشحم الجنب لحم ويعرف تمامه في الأيمان .

قال : ( ولا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب ) خلافا لأبي يوسف ، وعلى هذا القمار لأن الربا والقمار حرام ، ولا يحل في دارهم كالمستأمن في دارنا . ولهما أن مالهم مباح ، إلا أنه بالأمان حرم عليه التعرض بغير رضاهم تحرزا عن الغدر ونقض العهد ، فإذا رضوا به حل أخذه بأي طريق كان بخلاف المستأمن ، لأن ماله صار محظورا بالأمان .

قال : ( ويكره السفاتج ) وهو قرض استفاد به المقرض أمن الطريق ، لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " كل قرض جر منفعة فهو ربا " وصورته أن يقرضه دراهم على أن يعطيه عوضها في بلده ، أو على أن يحميه في الطريق .




الخدمات العلمية