الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 109 ] كتاب النكاح

النكاح حالة الاعتدال سنة مؤكدة مرغوبة ، وحالة التوقان واجب ، وحالة الخوف من الجور مكروه ، وركنه الإيجاب والقبول ، وينعقد بلفظين ماضيين ، أو بلفظين أحدهما ماض والآخر مستقبل ، كقوله زوجني ، فيقول زوجتك ، وينعقد بلفظ النكاح والتزويج والهبة والصدقة والتمليك والبيع والشراء ( ف ) .

[ ص: 109 ]

التالي السابق


[ ص: 109 ] كتاب النكاح

وهو في اللغة الضم والجمع ، ومن أمثالهم : أنكحنا الفرا فسنرى : أي جمعنا بين حمار الوحش والأتان لننظر ما يتولد منهما ، يضرب مثلا لقوم يجتمعون على أمر لا يدرون ما يصدرون عنه . وحكى المبرد عن البصريين وغلام ثعلب عن الكوفيين : أن النكاح عبارة عن الجمع والضم .

وفي الشرع عبارة عن ضم وجمع مخصوص وهو الوطء ; لأن الزوجين حالة الوطء يجتمعان وينضم كل واحد إلى صاحبه حتى يصيرا كالشخص الواحد ، وقد يستعمل في العقد مجازا لما أنه يئول إلى الضم ، وإنما هو حقيقة في الوطء ، فمتى أطلق النكاح في الشرع يراد به الوطء لقوله - عليه الصلاة والسلام - : ولدت من نكاح ) أي من وطء حلال ، وقوله : " يحل للرجل من امرأته الحائض كل شيء إلا النكاح " ، وقد ورد في أشعار العرب بمعنى الوطء أيضا . قال الأعشى :


ومنكوحة غير ممهورة وأخرى يقال له فادها

.


يعني مسبية موطوءة بغير عقد ولا مهر

. وقال آخر :


ومن أيم قد أنكحتها رماحنا وأخرى على عم وخال تلهف



يعني وطء المسبية بالرماح ، إلى غيرها من الأشعار الكثيرة ، وإنما يفهم منه العقد بقرينة قوله - تعالى - : ( فانكحوهن بإذن أهلهن ) ; لأن الوطء لا يتوقف على إذن الأهل ، وكذلك قوله [ ص: 110 ] - تعالى - : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) الآية ; لأن العقد هو الذي يختص بالعدد دون الوطء ، وكذا قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا نكاح إلا بشهود " ; لأن الشهود لا يكونون على الوطء ، ولأنهما حالة العقد مفترقان ، وإنما يطلق عليه النكاح لإفضائه إلى الضم كقوله - تعالى - : ( إني أراني أعصر خمرا ) ، وهو عقد مشروع مستحب مندوب إليه ، ثبتت شرعيته بالكتاب وهو قوله - تعالى - : ( وأنكحوا الأيامى منكم ) ، وقوله : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) . وبالسنة قال - صلى الله عليه وسلم - : " تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة " ، وقال : " النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني " ، والنصوص في ذلك كثيرة والآثار فيه غزيرة ، وعلى شرعيته إجماع الأمة .

قال : ( النكاح حالة الاعتدال سنة مؤكدة مرغوبة ، وحالة التوقان واجب ، وحالة الخوف من الجور مكروه ) ، أما الأول فلما تقدم من النصوص ، فبعضها أمر وأنه يقتضي الترغيب والتأكيد على فعله ، وكذلك الحديث الثاني ناطق بكونه سنة ، ثم أكده حيث علق بتركه أمرا محذورا ، وأنه من خصائص التأكيد كما في سنة الفجر ، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - واظب عليه مدة عمره وأنه آية التأكيد .

وأما الثاني فلأن حالة التوقان يخاف عليه أو يغلب على الظن وقوعه في محرم الزنا ، والنكاح يمنعه عن ذلك فكان واجبا ; لأن الامتناع عن الحرام فرض واجب .

وأما الثالث فلأن النكاح إنما شرع لما فيه من تحصين النفس ومنعها عن الزنا على سبيل الاحتمال وتحصيل الثواب المحتمل بالولد الذي يعبد الله - تعالى - ويوحده ، والذي يخاف الجور والميل يأثم بالجور والميل ويرتكب المنهيات المحرمات فينعدم في حقه المصالح لرجحان هذه [ ص: 111 ] المفاسد عليها ، وقضيته الحرمة إلا أن النصوص لا تفصل فقلنا بالكراهة في حقه عملا بالشبهين بالقدر الممكن .

( وركنه الإيجاب والقبول ) ; لأن العقد يوجد بهما ، وركن الشيء ما يوجد به كأركان البيت .

قال : ( وينعقد بلفظين ماضيين ) كقوله زوجتك ، وقول الآخر تزوجت أو قبلت ; لأن هذا اللفظ يستعمل للإنشاء شرعا للحاجة ولا خلاف فيه ( أو بلفظين أحدهما ماض ، والآخر مستقبل ، كقوله زوجني ، فيقول زوجتك ) ; لأن قوله زوجني توكيل ، والوكيل يتولى طرفي النكاح على ما نبينه . وروى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة لو قال : جئتك خاطبا ابنتك ، أو لتزوجني ابنتك ، أو زوجني ابنتك ، فقال الأب : قد زوجتك فالنكاح لازم ، وليس للخاطب أن لا يقبل ، ولا يشبه البيع لأن مبناه على المسامحة والمساهلة ، والبيع على المماكسة والمساومة ، ولو قال لها : أنا أتزوجك ، فقالت قد فعلت ، جاز ولزم ; لأن قوله أتزوجك بمعنى تزوجتك عرفا بدلالة الحال كما في كلمة الشهادة ، ولو قال : أتزوجني ؟ فقال الآخر : زوجتك لا ينعقد النكاح لأنه استخبار واستيعاد لا أمر وتوكيل ، ولو أراد به التحقيق دون الاستخبار والسوم ينعقد به . قال : ( وينعقد بلفظ النكاح والتزويج ) لأنهما صريح فيه . قال : ( والهبة والصدقة والتمليك والبيع والشراء ) ; لأن هذه الألفاظ تفيد الملك ، وأنه سبب لملك المتعة بواسطة ملك الرقبة كما في ملك اليمين ، والسببية من طرق المجاز .

وأما لفظ الإجارة فروى ابن رستم عن محمد أنه لا ينعقد بها ، وهو اختيار أبي بكر الرازي ; لأن الإجارة لا تفيد ملك المتعة ولأنها تنبئ عن التأقيت ، ولا تأقيت في النكاح . وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجوز وهو اختيار الكرخي ، قال : لأن الله - تعالى - سمى المهر أجرا فينعقد بلفظ الإجارة كالإجارة .

وعن محمد : لو قال : أوصيت لك بابنتي للحال ينعقد ، وإن أوصى بها مطلقا لا ينعقد ; لأنها توجب الملك معلقا بشرط الموت ، والأصل فيه ما قاله أصحابنا : كل لفظ يصح لتمليك الأعيان مطلقا ينعقد به النكاح . وروى ابن رستم عن محمد أنه قال : كل لفظ يكون في الأمة تمليكا للرق فهو نكاح في الحرة .




الخدمات العلمية