الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الركن الثالث : المرهون به . وفي الجواهر : له شرطان : الأول : أن يكون دينا في الذمة يمكن استيفاؤه من الرهن ، فلا يرهن في عين مشار إليها ، ولا منافع معينة ، وحيث وقع في المذهب في معين ، فالمراد قيمته كما وقع في العارية ، ففصل ما يغاب عليه مما لا يغاب عليه ، فضمان القيمة فيما يغاب عليه دون ما لا يغاب عليه .

                                                                                                                الشرط الثاني : اللزوم ، أو المصير إليه كالجعل بعد العمل . وقال ( ش ) : يجوز في كل ذي لازم دون المجهول ، ودية العاقلة قبل حول الحول لعدم تحقق صفات من تجب عليه عند الحول من الغنى ، وغيره ، ودون القصاص والقذف لتعذر أخذها من الرهن ، ودين الكتابة خلاف لـ ( ح ) ; لأن عوض دين الكتابة الرقبة وعمل الإجارة لتوقع الفسخ ، ولا قبل عقد البيع ، بل إنما يجوز مع المقارنة خلافا لنا ، و ( ح ) ; لأنه تابع للدين عنده ، فلا يكون قبله كالخيار ، والأجل ، ومنعه في الأعيان [ ص: 94 ] كالمغصوب ، والمسروق ، والعارية ، ونحوها ; لأن الواجب القيمة عند التلف ، فهو رهن قبل الحق ، وجوزه ( ح ) . وفي التلقين : يصح قبل الحق ، وبعده ، ومعه ، ووافقنا في أنه إذا وقع القبض لزم ، وصار رهنا بذلك الشرط المتقدم ، وقبل القبض لا يكون رهنا ; لأن قبل القبض لا يتحقق رهن عنده ، ولا عند ( ش ) ; لأنه لا ينعقد بالقول عندهما خلافا لنا . وعند ( ش ) اتصال القبض بما اشترط قبل العقد لا يصيره رهنا لفساد الأصل عنده .

                                                                                                                فالحاصل أن أبا حنيفة موافق لنا في هذه المسألة ، إنما خالفنا في انعقاد الرهن بالقول ، فعندنا يلزم التسليم في هذه الصور كلها ، ويقضى به ، وعندهما لا . لنا : قوله تعالى : ( فرهان مقبوضة ) ولم يفرق .

                                                                                                                لا يقال : تقدم في صدر الآية ( إذا تداينتم بدين ) فما صرح بمشروعية الرهن إلا بعد تحقق الدين .

                                                                                                                لأنا نقول : وقد صرح بالسفر ، وعدم الكاتب ، وقد سقطا عن الاعتبار فيسقط اعتبار تقدم الدين بالقياس عليهما ، والجامع أن الكل خرج مخرج الغالب ، فإن الغالب وقوعه بعد الدين ، فلا يكون له مفهوم إجماعا . ويتأكد بقوله عليه السلام : المؤمنون عند شروطهم .

                                                                                                                فإن قيل : يصح إن طلعت الشمس فأنت طالق ، ولا يصح إن طلعت الشمس فقد رهنتك فعلمنا اختلاف الناس في قبول التعليق .

                                                                                                                قلنا : لا يقبل الطلاق عندنا هذا التعليق ، بل يتنجز الطلاق . وقال ابن القصار من أصحابنا : مقتضى أصولنا صحة التعليق المذكور في الرهن ، فلا شيء مما ذكرتموه . أو نقول : عقد فيلزم مع تعليقه على الشرط كالعتق ، والطلاق ، وغيرهما ، ولأن مقصود الرهن استيفاء الحق عند تعذره ، وتعذره مستقبل فيتعلق على مستقبل آخر ، وهو أصل المعاملة إلحاقا لأحد المستقبلين بالآخر . أو نقول لو قال : [ ص: 95 ] ألق متاعك في البحر ، وعلي دركه ، وإن جاء متاعي غدا ، فاقبضه صح إجماعا مع التعليق على أمر مستقبل اتفاقا فيجوز هاهنا كما صح في ضمان الدرك أولا ، وفي الوديعة ثانيا ، أو قياسا على ما إذا شرطه في زمن الخيار ، أو قياسا على ما إذا ضمن نفقة زوجة ابنه عشر سنين ، واحتجوا بالقياس على ما تقدم الشهادة على المشهود به بجامع التبعية للحق .

                                                                                                                والجواب : أن مقصود الشهادة المشاهدة وحصول العلم ، وهو متعذر قبل المشهود به ، ومقصود الرهن التوثق ، وهو حاصل إذا تقدم الحق ، وينتقض بضمان الدرك المتقدم ، وبالوديعة ، والطلاق ، والعتاق ، وغيرها .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                في الكتاب : يجوز في دم الخطأ إن علم الراهن أن الدية على العاقلة . ولو ظن أن ذلك يلزمه وحده امتنع ، وله رد الرهن . وكذلك الكفالة ; لأنه خلاف ما رضي به .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال : إن ارتهنت دابة على أنها مضمونة عليك لم تضمنها ; لأنها لا يغاب عليها ، وإن رهنته بها رهنا لم يجز ، وإن ضاع ضمنه ; لأنه لم يأخذه على الأمانة ، ويجوز بالعارية التي يغاب عليها ; لأنها مضمونة .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال : إن ادعيت دينا ، فأعطاك به رهنا يغاب عليه ، فضاع عندك ثم تصادقتما على بطلان دعواك ، أو أنه قضاك ضمنت الرهن ; لأنك لم تأخذه على الأمانة به . وكذلك لو أعطاه دنانير حتى يصارفه بها فضاعت . وكذلك ما عمله الصناع بغير أجر ، أو قبض المرتهن ، أو وهبه للراهن ثم ضاع الرهن ضمنه ، وإن زادت قيمته على الدين ، أو وقع في الصرف رهن بأحد النقدين جهلا ، أو أخذ رهنا بالقراض ; لأن كله ممنوع ، فلم يؤخذ على الأمانة . بخلاف إعطائك رهنا له بكل ما أقرض [ ص: 96 ] فلانا قال التونسي : قال أشهب في عارية الدابة بشرط الضمان يصح الرهن ، وله الكراء ، وكأنه آجره إياها على أنها إن هلكت ضمنه ما لا يلزمه ، فهي كالإجارة الفاسدة . وقال : إذا تصادقتما على عدم الدين تضمن ، وإن كان الرهن لا يغاب عليه ; لأنه كالغاصب . قال : فانظر لو كان قد نسي اقتضاء الدين ثم تذكر بعد الرهن . قال ابن يونس : قال أشهب في رهن الصرف جهلا : هو رهن بالأقل من قيمة الدنانير ، أو الدراهم ، وما زاد ، فهو أسوة الغرماء . ورهنك بما يقرض فلان قيل يكون الرهن بما داينته ما لم يجاوز قيمة الرهن ، ولا يراعي ما يشبه أن يداين به بخلاف حمالتك بما يداينه ; لأنك لما أعطيت رهنا بينت له المقدار .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                في الكتاب : يجوز بجميع الصداق قبل البناء ; لأن العقد يوجب الصداق كله ، فإن طلق قبل البناء بقي الجميع رهنا بالنصف كمن قضى بعض الدين ، أو وهب له .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال : يجوز أخذ دين على الرهن ، ويصير رهنا بهما . ومنع ( ح ) ، وأصح قولي الشافعي .

                                                                                                                لنا : عموم الآية ، وقد تقدم السؤال عليها ، والجواب القياس على الحمالة ، والشهادة بجامع التوثق . فإن فرق بأن الشهادة علم ، والعلم لا يجب حصر متعلقه ، والكفالة ذمة ، وهي قابلة لأمور كثيرة ، والتعلق في الرهن بعينه ، وهو لا يقبل الزيادة على قيمته ، فإنه ينتقض بالجناية التي لا تسع رقبة العبد غيرها ثم إذا جنى جناية أخرى تعلقت برقبته . ولأن المقصود بالحقيقة إنما هو ذمة الراهن ، ولأن الرهن يقبل النقصان ببقائه مرهونا على بقية الحق بعد قضاء الأكثر فيقبل الزيادة قياسا على النقصان .

                                                                                                                احتجوا بأن الرهن وجميع أجزائه تعلق به الحق بدليل لو أوفى أكثر الحق بقي الرهن رهنا ببقيته ولو قل ، ولو تلف أكثر الرهن بقيت بقيته مرهونة بجملة الحق . وإذا كان الرهن وأجزاؤه مشغولة بجملة الحق استحال أن يشغله غيره ، ولأنه [ ص: 97 ] عقد لا يجوز مع غير العاقد ، فلا يجوز مع العاقد كالنكاح ، ولأن الرهن تابع للحق ، فلا يكون تابعا لحق آخر كحق الدار من الطريق .

                                                                                                                والجواب عن الأول : أنه منقوض بالعبد إذا جنى ثم جنى ، فإنه يصير مشغولا بالجناية الثانية بعد أن اشتغل هو وأجزاؤه بالجناية الأولى ، وعن الثاني : الفرق أن مقصود النكاح الإباحة ، وضبط النسب ، ولا ضبط مع الشركة ، وعن الثالث : أنه مقلوب عليهم ، فنقول : تابع أضعف من المتبوع ، فيصير تابعا لمتبوع آخر كما إذا تجدد حول الدار دور أخر ، فإن الطريق يصير حقا للجميع ، فكذلك الرهن .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                في الكتاب : إن تكفلت عنه بحق ، وأخذت منه رهنا جاز ; لأنه آيل إلى حق لك عليه .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال ابن يونس : إذا رهنه في البيع الفاسد رهنا صحيحا ، أو فاسدا ، فقبضه ، فهو أحق به من الغرماء لوقوع البيع عليه .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال : قال محمد : إذا سألته تأخير دينه بعد الأجل شهرا ، وتعطيه رهنا ، أو حميلا امتنع ، وسقطت الحمالة ، ويرد الرهن ; لأنه سلف حرام .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                في الكتاب : لا يعطيك أجنبي رهنا بكتابة مكاتبك لامتناع الحوالة بها .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                قال : يجوز بدينين لكما مختلفين إلا أن يكون أحدهما قرضا بشرط أن يبيع الآخر ، ويأخذ رهنا ; لأنه سلف لنفع . ويجوز أن يقرضا معا بشرط أن يرهنكما لجواز أخذ الرهن ابتداء عن القرض .

                                                                                                                [ ص: 98 ] فرع

                                                                                                                قال : إذا أقرضته مائة أخرى على أن يرهنك بها ، وبالأولى يمتنع ، والرهن بالدين الأخير عند قيام الغرماء ، ويسقط الشرط المتضمن للفساد . وقيل : بل نصفه بالمائة الأخيرة ، وتبطل حصته الأخرى كما لو طلق امرأته ، وامرأة غيره . وقد أجاز أشهب : أسقط عني بعض الدين على أن أعطيك رهنا ، أو أبيعك على أن ترهن بهذا الثمن ، وبثمن السلعة الأولى رهنا ، وكرهه ابن القاسم . قال اللخمي : أجاز محمد : زدني في الأجل ، وأزيدك رهنا إن كان الرهن الأول يوفي الحق . قال ابن يونس : قال محمد : إن كان الدين الأول في أصل المسألة حالا جاز إلا أن يكون عديما لتمكنه من قبض الحال ، فكأنه أسلفه الآن على أن أعطاه وثيقة .

                                                                                                                نظائر : قال : يجوز الرهن إلا في أربع مسائل : الصرف ، ورأس مال السلم ، والدماء التي فيها القصاص ، والحدود .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية