الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الأدب الرابع عشر : التزام سد ذريعة الخيانة والمهانة ، قال ابن يونس : لا يقبل هدية ، ولا ممن يهاديه قبل ذلك ، ولا قريب ولا صديق ، وإن كافأ بأضعافها ، إلا من الوالد والولد ونحوهما من خاصة القرابة التي تجمع من الحرمة أكثر من حرمة الهدية ، قال سحنون : ومثل الخالة والعمة وبنت الأخ ، ) لأن رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ استعمل رجلا من بني أسد على الصدقة فلما قدم قال : هذا لكم وهذا لي أهدي إلي ، فقام النبي _ صلى الله عليه وسلم _ على المنبر فقال : ( ما بال العامل نبعثه على بعض أعمالنا فيقول : هذا لكم وهذا أهدي إلي ، ألا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا ، والذي نفسي بيده ، لا يأخذ أحد منها شيئا إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته ) حديث صحيح ؛ ولأنها ذريعة الرشى في الأحكام ، فيندرج الذين اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ، وقال ابن عبد الحكم : لا يقبل ممن يخاصم ويقبلها من إخوانه ، قال ابن حبيب : لم يختلف العلماء في كراهتها إلى السلطان والقضاة والعمال وجباة الأموال ، وقبوله _ صلى الله عليه وسلم _ الهدية من خواصه ، قال ابن حبيب : وللإمام أخذ ما أفاد العمال ، كما فعله _ صلى الله عليه وسلم _ ، وكان عمر _ رضي الله عنه _ إذا [ ص: 81 ] ولى أحدا أحصى ماله لينظر ما يزيد فيأخذه منه ، وكذلك شاطر العمال لما لم يستطع تمييز الزائد ، وشاطر أبا هريرة ، وأبا موسى الأشعري ، لما احتضر معاوية _ رضي الله عنه _ أمر أن يدخل شطر ماله في بيت المال استنانا بفعل عمر بعماله .

                                                                                                                تمهيد : الزائد قد يكون من التجارة أو الزراعة لا من الهدية ولا تظن الهدايا بأبي هريرة وغيره من الصحابة إلا مما لا يقتضي أخذا ، ومع ذلك فالتشطير حسن ، لأن التجارة لا بد أن ينميها جاه العمل فيصير جاه المسلمين ، كالعامل والقاضي أو غيره رب المال فأعطي العامل نصف المال عدلا بين الفريقين ، وكذلك لما انتفع عبد الله وعبيد الله ) ابنا عمر بن الخطاب ) بالمال الذي أخذاه من الكوفة سلفا في القصة المشهورة ، قال عبد الرحمن بن عوف _ رضي الله عنه _ : اجعله قراضا يا أمير المؤمنين ، فجعله قراضا ، ولولا هذه القاعدة كيف يصير القرض قراضا فتأمل ذلك ، قال ابن يونس : ولا بأس للقاضي بحضور الجنائز ، وعيادة المرضى ، ويسلم على أهل المجلس ويسلم على من يسلم عليه ، لا ينبغي له إلا ذلك ، لأنها قربات من أموال الناس ، فالقربات ، وقال عبد الملك ومطرف : لا ينبغي له أن يجيب الدعوة ؛ لأنها مظنة أكل الطعام إلا في الوليمة للحديث فيها ، ثم إن شاء أكل أو شرب ، وقال أشهب : يجيب الدعوة العامة وليمة أو صنيعا عاما لفرح ، ولا يجب لغير الفرح ، لأن العموم لعله من أجل القاضي لا لسرور ، قال سحنون : والتنزه عن الدعوة العامة أحسن ، وقد كره مالك لأهل الفضل أن يجيبوا كل من دعاهم .

                                                                                                                سؤال : قال _ صلى الله عليه وسلم _ : ( لو دعيت إلى كراع لأجبت ) واختلف هل المراد كراع [ ص: 82 ] الشاة أو اسم مكان ، وعلى التقدير تكون إجابة الداعي حسنة مطلقا للقاضي وأهل الفضل ; اقتداء به _ صلى الله عليه وسلم _ . بل ينبغي النهي عن غير ذلك .

                                                                                                                جوابه : إن عظم منصبه _ صلى الله عليه وسلم _ أوجب الفرق ، فكان الناس يجيبون ، فإن من أجابه _ صلى الله عليه وسلم _ فقد حصل له خير الدنيا والآخرة ، فالمنة لرسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ على الداعي جزما ، والأمر فينا بالعكس ، إنما ندعى لتكون المنة علينا ، وذلك هوان بنا وعز به _ صلى الله عليه وسلم _ فحصل الفرق ، وفي النوادر : قال عبد الملك ومطرف : لا يشتغل القاضي بالأحاديث في مجلسه إلا أن يريد إجمام نفسه . قالا : وإذا جلس أحد عنده ، وقال : جلست لأفتدي بك ، وأتعلم من أقضيتك : فليقمه ، والجلوس عند القضاة من حيل المشاكلين للناس ، إلا أن يكون معروفا مأمونا فيدعه ، قال أصبغ : لا يقعد عنده إلا الثقة البارز الذي فيه نفع ، ولا يشغل في مجلس قضائه بالبيع والابتياع لنفسه أو لغيره على وجه العناية به إلا ما خف ، قال سحنون : وتركه أفضل قال أشهب : فما باع جاز بيعه لا يرد منه شيء ، قال سحنون : وبأس بذلك في غير مجلس القضاء لنفسه ولغيره . وكتب عمر بن عبد العزيز : تجارة الولاة لهم مفسدة ، وللرعية مهلكة ، قال أشهب : أما بيع التركات في مجلس قضائه ، أو مال غائب أو صغير ، فذلك جائز ، قال عبد الملك : لا ينبغي إكثار الدخول عليه ، ولا الركوب معه ، إلا لأهل الأمانة والنصيحة والفضل ، قال أشهب : لا يقبل الهدية من خصم وإن كان خاصا أو قياسا له ، وإن كافأه ، ولا من غير خصم ، إلا أن يكافئه بمثلها ، وإن كان يهاديه قبل ذلك ، قال ابن عبد الحكم : له التسلف من إخوانه الذين يعرف له السلف منهم ، ويستعين بإخوانه في حوائجه ، قال عبد الملك : لا ينبغي له التضاحك مع الناس ، وتكون فيه عبوسة بغير غضب ، ويلزم التواضع من غير وهن لا ترك حق ، وإن أمكنه الغناء عن الأعوان كما كان الخلفاء فهو أفضل ، فإن احتاج فليخفف ما [ ص: 83 ] استطاع ، ويمنع من رفع الصوت عنده لئلا يدهش ، ويتنزه عن العواري والمقارضة ، قال ابن عبد الحكم : لا بأس أن يطالع ضيعته اليومين والثلاثة .

                                                                                                                وفي الجواهر : لا يشتري بنفسه ولا بوكيل معروف لئلا يسامح ، ولا يوكل إلا من يأمنه على دينه لئلا يسترخص له بسبب الحكم ، ولا يدري الناس منزلة لأحد عنده لئلا يؤتى من قبله ، ولا يدعو أحدا في عدالة ولا شهادة ، ويكفي القاضي من المعرفة منح الرجل صحبه من غير حاجة ، لأنه يخادع الناس بالمنزلة عند القاضي كثرة الناس في الركوب معه ، تعظم عليه نفسه ، وتعظم عليه خلقه ، ووافقنا الأئمة على تحريم الرشوة ; لقوله _ صلى الله عليه وسلم _ : ( لعن الله الراشي والمرتشي على الحكم ) وقال أبو حامد الإسفرايني والبكري من الشافعية : إذا كان لا يأخذ رزقا من بيت المال ، وقال : لا أقضي بينكما إلا بعوض وأجراه مجرى الهدية ، وحقيقة الرشوة : الأخذ للحكم بغير الحق أو لإيقاف الحكم ، فهذا هو الحرام عندهم وعند ( ش ) : تحرم الهدية من غير من عادته أن يهدي إليه قبل الولاية ، وممن عادته ، إن كانت له حكومة أو يستشعرها له ، أو أهدى له أعلى مما عادته أن يهديه والإجارة مع الكراهة ، وكذلك إذا أهدى إليه في غير عمله ، واختلف الشافعية إذا أخذ المحرمة هل يردها لربها أو لبيت المال ؛ لأن المهدي أهدى إليه لمكان ولايته ، وهو منتصب لمصلحة المسلمين فكأنه أهداها للمسلمين فتصرف في مصالحهم ، وجوزوا حضوره الولائم مطلقا من غير كراهة ، وكرهوا تولي البيع والشراء بنفسه ، وأن يكون وكيله معروفا ، ولهم في الفتيا في أحكام الخصومات قولان . ووافق ابن حنبل ( ش ) في الهدية وأقسامها والولائم والبيع ، وعند ( ح ) : متى قبل الرشوة انعزل ، ولا ينفذ قضاؤه بعد ذلك ، حتى يتوب ، فإذا تاب فلا يحتاج إلى استئناف تولية ، لأن الفسق يبطل حكمه كالشهادة بل أولى ; [ ص: 84 ] لأن حكم القاضي ينفذ على الغير ، والشاهد لا ينفذ قوله على الغير ، ويعود لغير ولاية لزوال المعارض فيعمل السبب السابق ، وفصل في الهدية مثل ( ش ) .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية