الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                ( الفصل الرابع )

                                                                                                                في صفة التيمم

                                                                                                                فأول ذلك : النية واجبة فيه خلافا للأوزاعي ، وقد تقدمت مباحثها في الوضوء ، فلنكتف بما هناك ، وينوي استباحة الصلاة سواء كان جنبا ، أو محدثا الحدث الأصغر ، فلو اجتمعا ، وكان ناسيا للجنابة ، فروايتان : إحداهما عدم الإجزاء ; لأن التيمم حينئذ يكون بدلا عن الوضوء ، وهو بعض أعضاء الجنابة ، والبدل عن البعض لا ينوب مناب البدل عن الكل ، وهو التيمم عن الجنابة ، والأخرى يجزيه ; لأن المقصود ارتفاع المنع من الصلاة ، وهو واحد ، فلا يضر اختلاف أسبابه ، وقد صرح في الكتاب بنيابة الوضوء عن الجنابة في الجبيرة إذا مسحها ، وهو جنب ، ثم برئت ، وغسلها بنية الوضوء ، ونص اللخمي على النيابة مطلقا ، والفرق بين الوضوء والتيمم على الأول أن التيمم بدل عن الوضوء الذي هو بعض الجنابة ، والوضوء أصل في نفسه ، وإذا نوى استباحة الفرض استباح النفل ; لأن الأدنى يتبع الأعلى في نظر الشرع ، ولأنه ورد في الحديث أن الفرائض يوم القيامة تكمل بالنوافل ، فكانت كالأجزاء لها ، ولا يصلي ركعتي الفجر بتيمم الصبح ; لأن الفرض لا يكون [ ص: 352 ] تبعا للنفل ، وقيل : يصلي لحصول الاستباحة ؛ رواه محمد بن يحيى ، ولو نوى فرضين صح ، ولا يصلي أكثر من فرض واحد على المشهور ، ثم يستعمل الصعيد .

                                                                                                                قال في الكتاب : يضرب الأرض بيديه جميعا ضربة واحدة ، فإن تعلق بهما شيء نفضه نفضا خفيفا ، ومسح بهما وجهه ، ثم يضرب أخرى لليدين ، ويضع اليسرى على اليمنى فيمرها من فوق الكف إلى المرفق ، ومن باطن المرفق إلى الكوع ، ويفعل باليسرى كذلك . . قال ابن شاس : وأجاز الشيخ أبو الحسن ، وعبد الحق مسح كف اليمنى قبل الشروع في اليسرى ، وروى ابن حبيب تركها حتى يصل كوع الأخرى ، ويمسح الكوعين ، واختاره ، والقولان مؤولان من الكتاب . قال صاحب الطراز : والثاني ظاهر الكتاب ، ووجهه أن كفه اليمنى كما تمسح ذراعه ، فكذلك ذراعه يمسح كفه ، والتكرار في التيمم غير مطلوب ، فلا يؤمر بمسح كفه بكفه ، ولأنه يذهب بما في كفه اليمين من التراب ، ووجه الأول أن الأصل أن لا يشرع في عضو إلا بعد كمال ما قبله ، وما نقله صاحب الرسالة : إذا وصل الكوع مسح بباطن إبهام اليسرى ظاهر إبهامه اليمنى ، وكذلك في اليسرى . قال صاحب الطراز : قال ابن عبد الحكم : ليس في ذلك حد كالوضوء ، وهذه الصفة ، وإن لم ترد ، فليست تحكما بل لما علم الفقهاء أن الإيعاب مطلوب ، والصعيد ليس يعم بسيلانه كالماء اختاروا هذه الصفة لإفضائها لمقصود الشارع ، وفعل الوسائل لتحصيل المقاصد من قواعد الشرع وعادته .

                                                                                                                قال مالك في العتبية : يجزيه ضربة إذا اقتصر عليها . قال ابن القاسم : لا يعيد في وقت ، ولا غيره ، وعند ابن حبيب يعيد في الوقت ، وقال ابن نافع والشافعي ، وأبو حنيفة : يعيد مطلقا .

                                                                                                                لنا ما في مسلم ، والبخاري : أن عمار بن ياسر قال لعمر بن الخطاب رضي [ ص: 353 ] الله عنهما : أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية ، فأجنبنا ، فلم نجد الماء ، فأما أنت ، فلم تصل ، وأما أنا فتمعكت في التراب كما تتمرغ الدابة وصليت ، فأتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إنما كان يكفيك ضربة للوجه ، وضربة للكفين ، فقال له : اتق الله يا عمار ، فقال عمار : إن شئت يا أمير المؤمنين لم أحدث به ، فقال : بل نوليك من ذلك ما توليت ، ويروى إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ، ثم تنفخ ، ثم تمسح بهما وجهك ، وكفيك ، ويروى أن تقول هكذا ، وضرب بيديه إلى الأرض ، ونفض يديه ، فمسح وجهه ، وكفيه .

                                                                                                                وقد بينا أنه لا يجب نقل شيء من الأرض ، فلا معنى للإعادة ، وإنما ضرب أولا ليخرج من العهدة ، ولأن تكرار التيمم كترك تكرار الوضوء لا تعاد لأجله الصلاة في الوقت ، ولا في غيره .

                                                                                                                وقال أيضا في الكتاب : إن تيمم إلى الكوعين أعاد التيمم ، والصلاة في الوقت ، فإن خرج الوقت أعاد التيمم فقط . قال صاحب الطراز : يعيد عند ابن نافع أبدا ، وكذلك عند أبي ح ، و ش لإطلاق اليد في التيمم ، وتقييدها في الوضوء ، والمطلق يحمل على المقيد ، والقياس على الوجه .

                                                                                                                حجة المذهب أن اليد أطلقت في السرقة ، فحملت على الكوع ، فكذلك ها هنا ، ولأن اليد لو لم تصدق على الكوعين لما قيل في الوضوء : إلى المرافق ; لأن المغيا يجب أن تكمل حقيقته قبل الغاية ، ولولا ذلك لكانت إلا للاستثناء مكان إلى لإخراج العضدين ، ويمنع ها هنا حمل المطلق على المقيد لاختلاف الحكم ; لأن أحدهما وضوء ، والآخر تيمم . قاعدة أصولية : المطلق مع المقيد على أربع أقسام : تارة يختلف الحكم والسبب كالوضوء والسرقة ، فلا حمل إجماعا ، وتارة يتحدان كما لو ذكر الرقبة في الظهار مرتين مطلقة ، ومقيدة بالإيمان ، فإنه يحمل المطلق على المقيد ، وتارة يختلف السبب ، ويتحد الحكم كالرقبة في القتل مقيدة بالإيمان ، ومطلقة في الظهار ، وفي [ ص: 354 ] الحمل مذهبان ، وتارة يختلف الحكم ، ويتحد السبب كالوضوء ، والتيمم ، فالسبب واحد ، وهو الحدث ، والحكم مختلف ، وهو الوضوء والتيمم ، وفي الحمل مذهبان ، فعلى هذه القاعدة تتخرج فروع كثيرة .

                                                                                                                ويظهر أن إلحاق التيمم بالوضوء أولى من إلحاقه بالسرقة لكن يؤكد المذهب من جهة الأحاديث الصحيحة كحديث عمار ، وغيره ، فإنه مسح وجهه ، وكفيه ، وقد روي من طرق ، ولم يذكر المرفقين ، ورواية المرفقين منكرة عند أهل الحديث . قال أبو داود : قال شعبة : كان سلمة يقول : الوجه والذراعين ، فقال له منصور ذات يوم : انظر ما تقول ؛ فإنه لا يذكر الذراعين غيرك ، ولو صحت لحملناها على الفضيلة جمعا بين الحديثين ، وأما الخصم فيعطل أحدهما ، ولأن اليد تغسل جملتها للجنابة ، فإذا أبدل التيمم من الغسل تيمم على بعضها ، وترك العضدان ، فكذلك إذا أبدل من الوضوء ترك بعض ما يغسل للوضوء ، وعكسه الوجه لما كان يوعب للجنابة أوعب بدلا من الوضوء ، ولأن التيمم شرع فيما لم يستر عادة ، فأسقط من محال الطهارة ما ستر عادة ، ولذلك لم يشرع في الرأس لستره بالعمامة ، ولا في الرجلين لسترهما بالنعل ، وشرع في الوجه لكونه باديا ، فكذلك يقتصر على الكوعين لكونهما الباديين .

                                                                                                                هذا الكلام في الإجزاء ، والأفضل البلوغ إلى المرفقين لأنه فعل الصحابة رضي الله عنهم ، وقال ابن شهاب : يتيمم إلى الآباط من أسفل ، والمناكب من فوق ; لأن اليد اسم للجملة .

                                                                                                                وأما قول مالك : إن خرج الوقت أعاد التيمم فقط ، فهو مشكل ; لأن التيمم لا بد من إعادته ، ولو كان سابغا . قال صاحب الطراز : هو محمول على أنه تنفل بعد فرضه ، واستمر تنفله حتى خرج الوقت ، ثم ذكر ، فإنه يعيد التيمم ، ولا يتنفل بذلك التيمم الناقص ، وكذلك إذا علم قبل انقضاء الوقت ، فلا يتنفل بذلك التيمم حتى يعيد التيمم .

                                                                                                                [ ص: 355 ] فائدة : : الكوع آخر الساعد ، وأول الكف ، والمرفق - بكسر الميم ، وفتح الفاء ، وبفتح الميم ، وكسر الفاء - أول الساعد ، والإبهام - بكسر الهمزة مثل الإكرام - وهو الأصبع العظمى من اليد ، والبهام - بغير همز - جمع بهم ، والبهم جمع بهيمة ، وهو واحد أولاد الضأن ذكرا كان أم أنثى ، وهي للضأن مثل السخل للمعز . فروع أربعة :

                                                                                                                الأول : قال صاحب الطراز : يعم وجهه ، ولحيته بالمسح كما في الوضوء ، فما لا يجزئ في الوضوء لا يجزئ في التيمم ، وجوز ابن مسلمة ترك اليسير ، وأبو حنيفة ترك الربع ; لأن المسح مبني على التخفيف .

                                                                                                                لنا قوله تعالى : ( فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ) كما في الوضوء .

                                                                                                                الثاني : قال : يختلف في مسح الوجه بجميع اليد ، فجوز ابن القاسم مسح الرأس في الوضوء بأصبع إن أوعب ، ويلزم مثله في التيمم .

                                                                                                                وقالت الحنفية : لا يجزئ أقل من ثلاثة أصابع ؛ لأن الأمر بالمسح يقتضي آلة للمسح ، والآلة المعتادة هي الكف ، وهو صادق على أكثره . وهذا باطل ; لأن الآية اقتضت المسح بأي طريق كان .

                                                                                                                الثالث : قال ابن شاس : يخلل أصابعه ، وينزع الخاتم قياسا على الوضوء ، وقال صاحب الطراز : تخليل الأصابع في التيمم أولى من الوضوء لبلوغ الماء ما لا يبلغه التراب ؛ قاله ابن شعبان . قال ابن أبي زيد : وما رأيت ذلك لغيره قال : قال ابن عبد الحكم : ينزع الخاتم ، ومقتضى المذهب أنه لا ينزعه لأنه أخف من الوضوء .

                                                                                                                [ ص: 356 ] وقد اختلف قول مالك في تخليل الأصابع في الوضوء ، فإذا قلنا بالوجوب ثم لم يبعد الوجوب ها هنا .

                                                                                                                الرابع : قال ابن شاس : حكمه في الموالاة والترتيب حكم الوضوء ، وقاله في الكتاب لاشتراكهما في أدلة الحكمين ، ولأن العلماء لم يفرقوا بينهما إلا الأعمش ، فإنه قال : يبدأ في التيمم باليدين ، وهو ضعيف .

                                                                                                                وكذلك التدليك . قال صاحب الطراز : وعلى القول بأنه لا يجب في الوضوء لو سفت الريح التراب عليه لم يجزه ، وإن قلنا إن المنغمس في الماء يجزيه ; لأن الوضوء لا بد فيه من إيعاب الأعضاء بالماء ، فإذا أوعبها أجزأه على هذا القول ، فأما التيمم ، فلا يجب فيه الإيعاب بدليل التيمم على الحجر ، فلا بد من الإيعاب بصورة المسح ، فإذا لم يتدلك لم يحصل التيمم ألبتة ، والفرق مذهب الشافعي .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية