الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                النظر الثاني : في الموجب .

                                                                                                                وفي الجواهر : هو الرجم والجلد .

                                                                                                                [ ص: 69 ] والنظر في الرجم وشرطه ، وهو الإحصان : والجلد مائة ، وما يضاف إليه وهو التغريب ، فهذه أربعة أطراف .

                                                                                                                الطرف الأول : في الإحصان . وفي الجواهر : هو خمس خصال : التكليف ، والحرية ، والإسلام ، والتزويج الصحيح ، والوطء المباح ، وفي الحقيقة ثلاثة : الحرية ، والتزويج ، والوطء ، وغيرها معتبر في أصل الزنا ، ولم يشترط عبد الملك إباحة الوطء ، بل يحصن وطء الحائض من زوجها ، ولا يحصن وطء الشبهة في النكاح الفاسد . وتشترط الإصابة بعد الحرية ، ولا يشترط حصوله في الوطئين ، بل إن أحصن أحدهما رجم ، وجلد الآخر .

                                                                                                                فائدة : أصل هذه اللفظة : المنع ، ومنه : الحصن للبناء ; لأنه يمنع من فيه من العدو ، فالتكليف وازع يمنع من تعاطي المحرمات . والحرية تجعل النفس أبية تمتنع من القاذورات . الإسلام يمنع الإقدام على المنهيات ، والتزويج يكمل النعمة فيصير من ذوي الرتب العليات ، ويعظم عليها المؤاخذات ، والإجماع في التكليف والوطء . وأما الحرية فلقوله تعالى ( فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ) ، والوطء المباح ; لأنه الغالب ، فيحمل اللفظ عليه ; لأنه النعمة الكاملة . ووافقنا ( ح ) على الإسلام ، خلافا للشافعي وأحمد .

                                                                                                                لنا : قوله - عليه السلام - : ( لا إحصان مع الشرك ) ، والقياس على القذف بجامع تكامل النعمة ، وهو موجب لزيادة العقوبة ، بشهادة قوله تعالى : ( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن ) إلى قوله ( يضاعف لها العذاب ضعفين ) ، وقوله تعالى [ ص: 70 ] ( إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ) ، وقوله تعالى : ( لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين ) . فجعل تعالى مؤاخذته ومؤاخذة أزواجه أعظم المؤاخذات ، لأنهم أكمل من غيرهم ، ولأنها العادة : أن مناقشة خواص الملك أعظم . احتجوا بما في الصحاح : ( جاءت اليهود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا أن رجلا وامرأة منهم زنيا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ، فقالوا : نفضحهم ويجلدون ، فقال عبد الله بن سلام : كذبتم ، إن فيها الرجم ، فأتوا بالتوراة فنشروها ، فوضع أحدهم يده على أية الرجم ، ثم قرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك ، فرفع يده ، فإذا فيها آية الرجم ، فقالوا : صدقت ، إن فيها آية الرجم ، فأمر بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجما ) . وفي البخاري : ( وكانا قد أحصنا ) . ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يحكم بغير شرعه ، ولأن الكافر يعتقد دينه أتم الأديان ، وأكمل النعم فيؤاخذ بذلك في العقوبة ، ولأن غيره من الشروط إذا عدم خلفه ضده في عدم المنع ; لأن المجنون والصبي لا يمتنعان . والرقيق أجسر على الزنا ، وعدم الوطء يبعث على الزنا ليقف على حقيقته ، أما عدم الإسلام فلا ; لأن الكافر يمتنع من الزنا كالمسلم ، ولأن الفرق بينه وبين القذف : أن الوطء لا يعتبر في القذف ويعتبر في الرجم ، ويعتبر فيه العفاف دون الرجم ، ولا يعتبر فيه إحصان المحدود ; لأن الذمي يحد في القذف فهو حجة لنا ، لعموم قوله - عليه السلام - : ( الثيب بالثيب رجم بالحجارة ) أو سبب [ ص: 71 ] للقتل على المسلم ، فيكون سببا في حق الكافر كالقصاص .

                                                                                                                والجواب عن الأول : أن الحديث صحيح إلا تلك الزيادة : ( وهما محصنان ) ، وإنما رجمهم بوحي يخص أولئك لوجوه : أحدها : أنه - عليه السلام - لا يليق به ولا بمن له أدنى دين أن يتصرف في الزنا بغير أمر الله تعالى ، وثانيها : أن هذه القصة وقعت أول نزوله - عليه السلام - بالمدينة ، ولم يكن حد الزنا نزل بعد ، ولذلك روى ابن عمر مفسرا ، قال : وكان حد المسلمين يؤمئذ الجلد ، وثالثها : قوله تعالى ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ) ، وهذا يقتضي أنه إنما حكم بوحي يخصهم ، ورابعها : أنه روي في الخبر : أنه رجمهم بشهادة الكفار ، وأنتم لا تقولون به ، ولأنه - عليه السلام - لم يسأل عن شرائط إحصانهما .

                                                                                                                تنبيه : الحديث يشكل عليه مذهبنا ومذهب المخالف . أما مذهبنا : فلأنا ندعي وحيا وتخصيصا بهذين الشخصين بغير دليل ، مع أن الظاهر اقتضى الاعتماد على التوراة ، لا سيما إذا جمعت طرق الحديث . وأما مذهبهم ، فإن التوراة محرفة ، وإخبار عبد الله بن سلام وغيره ، إنما يفيد أنه رأى ذلك في التوراة ; لأنه يرويها عن الصدور بلا رواية في كتب الإسرائليين ، لطول الزمان وكثرة اللعب والإهمال ، والاعتماد على مثل هذا باطل إجماعا . وشرع من قبلنا إنما يكون شرعا لنا إذا ثبت أنه شرع من قبلنا بوحي ثابت ، أو رواية صحيحة . ولا يمكن أن نقول : إن حد المسلمين يومئذ الرجم ; لأنه لو كان كذلك لما سألهم - عليه السلام - عن التوراة ، ولا فحص ; لأنه نهانا عن ذلك ، وقال : ( لا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالله ) . بل مفهوم القرآن في قوله تعالى : ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ) [ ص: 72 ] يأبى ذلك ، وقوله تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) ، وفي المنتقى : يحتمل أن يكون أوحي إليه بصحة هذا من التوراة ، وعلم ذلك عند عبد الله بن سلام وغيره ، على وجه يوجب العلم ، أو شرع من قبلنا شرع لنا . وقد نبهت على ضعف الوجوه الأخيرة ، قال : قال مالك : لم يكونوا أهل ذمة .

                                                                                                                وعن الثاني : أنه لا عبرة باعتقاده ; لأنه نقمة أخرى لا نعمة ; لأن الكافر لو قذف كافرا لا يحد ، وإن اعتقد أن المقذوف محصن .

                                                                                                                وعن الثالث : أنه يبطل شهادته . فإنه يعتقد تحريم الكذب ، ولا تقبل شهادته .

                                                                                                                وعن الرابع : أن العفة عن الزنا لا تبقى مع القذف فاعتبرت ، وفي الإسلام هما سواء يبقى معها ، فاعتبر فيهما .

                                                                                                                والجواب عن الخامس : أنه يخصصه بما ذكرنا من الأدلة .

                                                                                                                والجواب عن السادس : أن القصاص لا يعتبر فيه بخلاف هاهنا .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                وفي المنتقى : لا يحكم أحدنا اليوم بحكم التوراة . وقال أشهب : إذا طلبت أهل الذمة الرجم - وهو دينهم - فلهم ذلك ، إلا من كان رقيقا لمسلم ، فليس لهم فيه رجم ، ولا جلد ، ولا قتل ; لتعلق حق المسلم . وقوله : ( فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهما فرجما ) ، يدل على أن الإمام يلزمه مباشرة الحدود ، وقاله مالك و ( ش ) ، وقال ( ح ) : في الاعتراف يلزمه الابتداء بالرجم ، ثم يتبعه الناس بخلاف البينة .

                                                                                                                لنا : القياس على السرقة . ويدل الحديث بقوله : ( فلقد رأيت الرجل يحني على المرأة [ ص: 73 ] يقيها الحجارة ) - أن المرجوم لا يحفر له . قاله مالك و ( ح ) ، وقال ( ش ) : يحفر للمرأة ، ولو حفر لم يكن منحنيا عليها . قال ابن دينار : يفعل الإمام من ذلك ما يراه ، وقال أصبغ ، يحفر للمرجوم ويرسل له يداه ، يدرأ بهما عن وجهه إن أحب . وفي الكتاب : إذا زنى الكافر لم يحد ، ورد إلى أهل دينه ، فإن أعلنوا الزنا وشرب الخمر نكلوا . قال ابن يونس : لأن الحد تطهير للكافر وهو ليس من أهله بخلاف القذف والسرقة والحرابة ; لأنه من باب التظالم - حق للذمي فيقام عليه وإن أسلم .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                في الكتاب : يقبل قوله : أنا بكر ، ويجلد ، ولا يقبل في الإحصان النساء ، كان معهن رجل أم لا ; لأنه حكم بدني .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                قال : إذا طال مكثه بعد الدخول ، فشهد عليه بالزنا ، فأنكر الإصابة ، لم يرجم إلا بإقرار أو ظهور ولد ; لعظم حرمة الدم ، بخلاف الصداق . في النكت : قال النكاح الثابت : إذا أخذت تزني بعد إقامتها مع زوجها عشرين سنة ، تحد . اختلف الجواب ; لأن الزوج مقر بالوطء أو يحتمل أن الطول فيها أكثر ، فهو اختلاف قول ، كما قاله يحيى بن عمر ، أو يفرق بأن العادة في طول المدة إذا لم يحصل وطء تطالب المرأة به ، فلما لم يكن دل على حصوله ، وليس عادة الزوج إظهار الوطء ( قاله بعضهم ) ، وليس بشيء ، بل الفرق ينعكس في الزوج إذا كان هو الزاني ، يقال له : تركها القيام دليل الوطء . قال ابن يونس : قال محمد : إذا اختلفا في الوطء بعد الزنا ، لم يقبل قول الزاني منهما ويرجم ، ولما لم يكن خلا بها إلا ليلة أو أقل . وإن اختلفا قبل الزنا لم يكن المقر محصنا ولو أقام معها الدهر ، وقاله [ ص: 74 ] ابن القاسم . والفرق بين قبل وبعد : أن الزوجة تقول قبل : إنما أقررت لتكميل الصداق ، أو يقول الزوج : إنما أقررت لتكون لي الرجعة ، والمقر بعد منهما أوجب على نفسه ، ولا عذر له ، فيكون الآخر مثله ، إذ لا يكون الواطئ محصنا دون الموطوء ، ولا يسقط إنكاره حدا وجب . قال اللخمي ، لا يكون محصنا بالعقد ولا بالدخول فيما يفسخ بعد الدخول ، فإن كان مما يثبت بعد الدخول كان به محصنا بما بعد بأول الملاقاة ، فإن صح العقد ، وفسدت الملاقاة لم يحصن عند ابن القاسم ولا يحد ، خلافا لعبد الملك فيهما ; لأن إطلاقات صاحب الشرع تحمل على المشروع ; لأنه عرفه ، وعند ابن دينار ، يحصن ولا يحد . قال : ولو عكس لكان أشبه ; لأن الحد يدرأ بالشبهة ، ومتى تصادقا في الإصابة قبل الزنا فمحصنان ، أو على نفيه فبكران ، وإن اختلفا حد المنكر ، واختلف في المقر فقيل : يرجم إلا أن يرجع قبل الجلد ، فإن اختلف بعد الزنا فثلاثة أقوال : قال عبد الملك : لا يقبل قول المنكر ويرجمان ، ( وهو قول أصحابنا ) ، وقال ابن القاسم : يصدق الزوج ، والقول الثالث : ما تقدم ذكره في كتاب النكاح فيما تقدمت حكايته في الثلاث ، وإذا غاب أحدهما ، أو مات قبل أن يسمع منه شيء . في المقدمات : إذا خالفها وأقر بالوطء قبل الزنا أو بعده فمحصنان ، وإن أنكراه بعد الزنا ولم يقرا قبله ، فثلاثة أقوال : لا يصدقان عند ابن وهب وإن قرب إلينا ، وقال جمهور الأصحاب : يصدقان ، إلا أن يطول الزمان جدا ، ويصدقان وإن طال الزمان ، وهو ظاهر المدونة في كتاب الرجم ، والثاني : ظاهرها في النكاح الثابت ، وإن أنكرا قبل الزنا ، صدقا اتفاقا .

                                                                                                                [ ص: 75 ] فرع :

                                                                                                                قال اللخمي : ومتى كان الزوج وحده غير بالغ ، لم يكن واحدا منهما محصنا ، وهي غير بالغة وحدها ، يحصن دونها ; لأن مقصود الوطء يحصل من الصغيرة له ، ولا يحصل للمرأة من الصغير ، وإن كان أحدهما عبدا يحصن الحر منهما لوجود الحرية والزوجية ، وإن كان أحدهما مجنونا يحصن العاقل خاصة ، قاله مالك وابن القاسم : وقال أشهب : المعتبر الزوج إن كان عاقلا فلا يحصن هو وهي أيضا إن زنت في إفاقتها ، أو مجنونا ، لم يتحصنا معا ، وقالعبد الملك : إن صح العقد منهما أو من وليهما تحصنا معا ، وإن كان مجنونين في حين البناء إذا وقع الزنا في الصحة ، فإن كان الزوج مسلما وهي نصرانية ، يحصن دونها ، أو مسلمة دونه ، لم يكن إحصانا لها ; لأنه إن تزوج وهي مسلمة كان فاسدا أو نصرانية فهي غير مخاطبة بالفروع . في المقدمات : إن وقع الوطء قبل الإسلام أو الحرية لم يعتبر حتى يقع بعدهما ، ويعتبر اجتماع الإسلام والحرية أيهما تقدم . وإذا انفرد الإسلام فهو إحصان ، أو الحرية لم يكن إحصانا يعتبر ، وبهذا تجتمع الآيات ، فقوله تعالى : ( فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت ) ، وقوله تعالى : ( واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما ) - منسوختان إجماعا ، وقوله تعالى : ( فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ) ، قرئ أحصن وأحصن - بفتح الصاد وكسرها - والثاني معناه : تزوجن ( قاله القاضي إسماعيل ) ; لتقدم قوله : ( من فتياتكم المؤمنات ) ، فيقتضي أن التزويج حال العبودية لا يوجب رجما ولا [ ص: 76 ] جلد مائة ، وقوله تعالى : ( نصف ما على المحصنات من العذاب ) أي : الحرائر المسلمات ، لا الحرائر المتزوجات ; لأن حدهن الرجم ، وهو لا يتبعض .

                                                                                                                نظائر :

                                                                                                                ( . . . . أربعة لا يحصن ، ولا تحصن : الأمة الزوجة للحر تحصنه ويحصنها ، والكتابية ، والصبية التي لم تبلغ ومثلها يوطأ ، والمجنونة ) .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية