الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                النظر الثاني : في أحكامهم .

                                                                                                                قال الله تعالى : ( من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) ، فجعل تعالى الفساد في الأرض ، كالقتل في وجوب القتل ، وبين الفساد فقال : ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ) ، فمحاربة الله ورسوله : إخافة السبيل ، وهو السعي في الأرض فسادا . فكررت الحرابة بلفظين تأكيدا .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                في الجواهر : قال مالك : جهادهم جهاد ، ونناشد المحارب الله تعالى ثلاث مرات ، فإن عاجله ، قاتله ، وقال عبد الملك : لا يدعه وليبادر إلى القتال . قال مالك : يدعوه إلى التقوى ، فإن أبى قاتله ، وإن يطلب مثل الطعام وما خف ، فليعطوه ولا يقاتلوه ; لأنه أخف مفسدة . قال سحنون : [ ص: 126 ] أرى أن لا يعطوا شيئا ، وإن قل ، ولا يدعوا ، وليظهر لهم الصبر والجلد والقتال بالسيف ، فهو أقطع لطمعهم .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                في الكتاب : من حارب من الذمة أو المسلمين ، وأخافوا السبيل ، ولم يأخذوا مالا ، ولم يقتلوا ، خير الإمام بين القتل والقطع ، ورب محارب لم يقتل ، أعظم فسادا في حرابه ممن قتل ، فإذا نصب ، وعلا أمره ، وأخاف ، وحارب ولم يقتل ، وأخذ المال أو لم يأخذ ، خير في قتله ، أو قطع يده ورجله ، ولا يجتمع مع القتل قطع ولا ضرب ، ولا يضرب إذا قطعت يده ورجله ، ولا يستوي المحاربون ، منهم من يخرج بعصا ، فيؤخذ على تلك الحال بحضرة الخروج ، ولم يخف السبيل ، ولا أخذ مالا فيكفي الضرب والنفي والسجن في الموضع الذي نفي إليه . ولا يجوز العفو عنه ; لأنه حق الله تعالى . ونفى عمر بن عبد العزيز محاربا من مصر إلى شفت ، وينفى من المدينة إلى فدك وخيبر ، ويسجن هناك حتى تعرف توبته ، فإن قتل ، وأخذ المال ، وأخاف السبيل ، قتل ، ولا تقطع يده ورجله . والصلب مع القتل فيصلب حيا ، وثم يطعن بالحربة . والعبد مثل الحر ، غير أنه لا ينفى لحق سيده في خدمته . وفي المقدمات : معنى قول مالك في التخيير : إنه يفعل ما هو أقرب للصواب ، فذو الرأي يقتله ; لأن القطع لا يدفع مضرته ، وذو القوة فقط يقطعه من الخلاف ; لأن ذلك ينفي ضرره ، وإن لم يكن على هذه الوجوه وأخذ عند خروجه ، فالضرب والنفي ، ليس معناه أنه يتخير بهواه . ومتى قتل فلا بد من [ ص: 127 ] قتله . وينحصر التخيير في قتله وصلبه وقطعه . وقوله في الكتاب : إن نصب نصبا شديدا ، أو علا أمره ، وطال زمانه ، فإنه يقتل ، لا ينبغي أن يؤخذ إلا بالقتل . وخالفنا الأئمة ، فقالوا : الآية للترتيب ، فلا يقتله إذا لم يقتل ، ولا يقطعه إذا لم يأخذ المال ، فإن قتل وأخذ المال ، خيره ( ح ) بين القتل فقط ، أو مع القطع ، ( ولا يصلب ، أو يجمع بين القتل والصلب . وقال ( ش ) : يتعين القتل والصلب ; لأنه يأتي على القطع ) ، وإن لم يقتل ولا أخذ المال ، تعين النفي . ويقدرون الشرط مكررا في الآية ، معناها عندهم : أن يقتلوا إن قتلوا ، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن أخذوا المال ، أو ينفوا إن لم يفعلوا شيئا من ذلك ، وقال ( ح ) : نفيه ( حبسه ببلده حتى تظهر توبته ) ، وهو مروي عن مالك ، وقال ( ش ) : نفيه أن يطلبه الإمام أبدا ، وهو يهرب من موضع إلى موضع . لنا : أن الأصل : عدم الإضمار وإرادة الحقيقة ، وهي التخيير الذي هو مسمى . واحتجوا بما في الصحيح : قال - عليه السلام - : ( لا يحل دم امرئ مسلم ، إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، أو زنا بعد إحصان ، أو قتل نفس ) ، ولم توجد في المحارب ، فلا يقتل ; ولأنه سبب واحد ، فلا تتعلق به عقوبتان ، كالقتل والسرقة ; ولأن الله تعالى شرط في الآية محاربة الله ورسوله مع الحرابة ، ولم يوجد ذلك في مسألتنا ; ولأن عادة الله تعالى في التخيير : البداية بالأخف ، كما في كفارة اليمين ، وفي الترتيب بالأشد ، نحو كفارة الظهار . وقد بدأ هاهنا بالأشد ، فتكون للترتيب ; ولأن الأصل : أن عظم العقوبة يتبع عظم الجناية ، فلا يترتب القتل إلا حيث القتل .

                                                                                                                [ ص: 128 ] والجواب عن الأول : أنه عام والآية خاصة فيقدم عليه .

                                                                                                                وعن الثاني : أنا لم نعلق بالسبب الواحد عقوبتين ، بل صفة كل محارب إلى عقوبة واحدة ، والحرابة من حيث هي حرابة لها عقوبة واحدة ، وهي الضرب والنفي كالزنا .

                                                                                                                وعن الثالث : أن محاربة الله تعالى محال ، فيتعين صرفها لمعصيته بالفساد في الأرض ، ويكون المعنى واحدا ، كقوله تعالى : ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) ، والحزن ، البث ، وعبس ، وبسر ، ومعناها واحد ، وهو في اللغة : يدل على اهتمام المتكلم به .

                                                                                                                وعن الرابع : أن المستند في الترتيب : أن يذكر بصيغة إن ، والتخيير بصيغة أو ; لكونه أشد وأضعف . وقد وجدت أو هاهنا ، فتكون للتخيير ، وإنما بدأ هاهنا بالأشد ; إشارة إلى عظم رتبة الحرابة في الجنايات .

                                                                                                                قاعدة : للتخيير في الشريعة أربعة معان : المباح المطلق ، كالتخيير بين أكل الطيبات ، ولبس الثياب ، والواجب المطلق ، كتصرفات الولاة ، فمتى قلنا : الإمام مخير في صرف بيت المال ، وفي أسارى العدو ، أو التعزير ، أو المحاربين ، فمعناه : أن ما يتعين سببه برجحان مصلحته ، وجب عليه ، وحرم عليه غيره ، فهو أبدا ينتقل من واجب إلى واجب . ويشبه أن يخرج على هذه القاعدة تخيير الساعي بين أربع حقاق وخمس بنات لبون ، ولا يتوقف أخذه لأحدهما على رجحان مصلحته ; لوجوب [ ص: 129 ] السبب الواحد المقتضي لهما ، وهو الملك الحاضر من الإبل ، ويحتمل أنه يجب عليه أن لا يأخذ إلا الأرجح للفقراء ، إلا أن بذل النصيحة للأمة واجب على الأئمة ونوابهم ، ولا يأخذ شيئا دون السن الواجب مع دراهم أو عرض ، إلا أن يكون أرجح للفقراء ; لأن السبب إنما اقتضى السن المتروكة ، والثالث : التخيير بين واجب من وجه ، ومباح من وجه ، نحو كفارة اليمين ، خير بينها ، وكل واحد واجب من حيث أنه أحد الخصال ، ومباح من ( وجه ، نحو كفارة اليمين من ) جهة خصوصه . وقد يكون خصوص العتق أو الطعام مندوبا ، فيكون التخيير بين الواجب والمندوب ، لا على معنى ترك الواجب ، بل المخير بينها واجبة من جهة عمومها ، لا من جهة خصوصها ، بخلاف تخيير الولاة يقع أبدا في واجب بخصوصه وعمومه ، فيما يعينه سببه وفي القسم ، أو المباح بخصوصه وعمومه الدائر بين الواجب والمكروه ، كتخيير المسافر بين القصر والإتمام ، والقصر واجب ، والإتمام مكروه على المشهور . والتخيير بين الصوم والفطر ، تخيير بين شهر الأداء وشهر القضاء ، فالواجب أحد الشهرين ، فهو من باب خصال الكفارة . وكذلك الجمعة في حق العبد ، والمسافر ، والمرأة ، وإن قلنا : القصر ليس مستحبا ، ( خير بين الواجب الذي هو القصر ، والمباح الذي هو الإتمام ) . والفرق بين خصال الكفارة ، والقصر ، والإتمام : أن القصر الذي هو الركعتان لا بد منهما إجماعا ، وإنما خير بين أن يزيد عليهما أم لا ، فالخصوص واجب في الركعتين ، وليس واجبا في خصلة من خصال [ ص: 130 ] الكفارة ، وهذه قاعدة في التخيير أبدا بين سببين : أحدهما جزء الآخر ، كتخيير الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - في قيام الليل بين ثلثه ونصفه وثلثيه ، فالثلث لا بد منه ، وما زاد مندوب ، والتخيير واقع فيه بين واجب ومندوب . وبهذه القواعد والتنبيهات يظهر بطلان من يقول : التخيير لا يقع إلا بين متساويين ، وأن التخيير يقتضي التساوي .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                قال ابن يونس : النفي عند مالك يوم وليلة ; لنهيه - عليه السلام - أن تسافر المرأة يوما وليلة ، إلا مع ذي محرم منها . قاله بعضهم ، ولا نفي على النساء لما تقدم في باب الزنا ; ويكتب للوالي بحبسه بذلك الموضع ، حتى يتوب من غير تحديد ، بخلاف الزنا ، ونفقتهما في حملهما من أموالهما . وقاتل النفس يحبس في موضعه . في المقدمات : قال ابن القاسم : يصلب حيا ، ويقتل في الخشبة ، فيسيل دمه مربوطا عليها ، من قولهم : تمر مصلب إذ كان شعره سائلا . وقال أشهب : يقتل قبل الصلب ، ثم يصلب ، فالتخيير واقع في صفة قتله ، لا بين قتله وصلبه ، فعلى رأي أشهب : يصلى عليه قبل الصلب . ويختلف في الصلاة عليه على مذهب ابن القاسم ، فقال عبد الملك : ليترك على الخشبة ، حتى تأكله الكلاب ، ولا يمكن من الصلاة عليه ، وعنه : يصلى خلف الخشبة ، ويصلى عليه مصلوبا ، وقال سحنون : ينزل من عليها ويصلى عليه ; لأنها سنة الصلاة وفي إعادته لها ; ليرتدع المفسدون ( قولان ) . وقال ( ح ) : يترك ثلاثة أيام ، وينزل ، جمعا بين المصالح ، وقد توفى معنى النص ، والزيادة مثلة منهي عنها ، والقطع في اليد اليمنى والرجل [ ص: 131 ] اليسرى ، فإن عاد ، قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى ، ( فإن كان أشل اليمنى والرجل اليسرى ، أو مقطوعهما ، قال ابن القاسم : تقطع يده اليسرى ، ورجله اليمنى ) حتى يكون القطع من خلاف ، وقال أشهب : تقطع يده اليسرى ، ورجله اليسرى ; لأنها المستحقة للحرابة . وفي النفي ثلاثة أقوال ، فعن مالك : السجن ، وقاله سفيان ، وقال مالك وابن القاسم : ينفى إلى بلد أقله مسافة القصر ، فيسجن حتى تظهر توبته ، وقال عبد الملك : يطلبهم الإمام لإقامة الحد ، فهروبهم منه هو النفي ، وإن قدر عليه لا ينفى . في النوادر : متى قتل ، قتل بالسيف من غير صلب . قال اللخمي : يسقط عن المرأة النفي والصلب ، وعلى قول مالك : إن النفي : الحبس بالبلد نفي ، وعلى المشهور : لا تنفى ، قال : وأرى إن وجدت وليا أو جماعة مرضيين ، وقالت : أخرج إلى بلد آخر ، فأسجن فيه ، أن لها ذلك ; لأنه أهون عليها من القطع والقتل . وحد العبد ثلاثة : القطع من خلاف ، والقتل بانفراده ، ( والصلب والقتل ) ، ويختلف في نفيه ، كما في المرأة . قال : وأرى إن قال سيده : أرضى بنفيه ، ولا يقطع ، أن يسوى بالحر . والحد أربعة : القطع ، والقتل بانفراده ، أو القتل والصلب ، أو النفي . وهو خلاف ما تقدم . في المقدمات : قال : وأما الصبي لم يحتلم ولم ينبت ، فيعاقب ولا يحد ، فإن أنبت الإنبات البين ، فخلاف في حده ، والمجنون يعاقب للاستصلاح ، كما تؤدب البهيمة للرياضة ، وإن خف جنونه ، حد ، وإن حارب وقت إفاقته ، ثم جن ، أخر حتى يفيق ، كالسكران لسكبه العقوبة . واختلف قول مالك في العقوبات الأربع ، هل هي على التخيير في المحارب الواحد ؟ أو كل محارب تتعين له عقوبة ، [ ص: 132 ] ويجتهد الإمام في ذلك إذا عظم فساده ، وأخذ المال ؟ وقال أشهب : إن أخذ بالحضرة ، ولم يأخذ مالا ، يخير فيه بين القتل والقطع والنفي ، وكذلك إذا عظم أمره ، وأخذ المال ، فإن قتل تعين القتل ; لقوله تعالى : ( النفس بالنفس ) ، وخير أبو مصعب فيه ، وإن قتل لظاهر الآية . ويقتل المحارب بالسيف أو الرمح بغير تعذيب ، ولا يرمى بشيء من عال ، ولا حجارة ، وإن رأى صلبه ، صلبه قائما لا منكوسا ، وتطلق يداه ، وإن لم تطلق فلا بأس . قال : وظاهر القرآن : أن الصلب قائم بنفسه ، وروي عن مالك ذلك ، والمذهب أنه مضاف للقتل ، وليس يصلب ولا يقتل ، فلو حبسه الإمام ليصلبه فمات ، لم يصلبه ، ولو قتله أحد في الحبس ، فله صلبه ; لأنه بقية حده ، وقال سحنون : إذا صلب ، وقتل ، أنزل من ساعته ، وصلي عليه ودفن ، وإن رأى الإمام إعادته بعد الصلاة للخشبة لمزيد فساده أعاده ، وإن كان أقطع الرجل اليسرى ، قطع اليد اليمنى والرجل اليمنى ، قال محمد : وإن لم يكن له إلا يد أو رجل ، أو يدان ، قطعت اليمنى وحدها . وعلى هذا إن لم يكن له إلا رجلان قطعت اليسرى وحدها . والضرب مع النفي استحسان ; لأنه زيادة على النص ، وليس له حد ، بل بحسب الحال ، ولا تقبل توبته في السجن بمجرد الظاهر ; لأنه كالمكره بالسجن ، بل تعتمد على القرائن ، فإن علمت توبته قبل طول السجن لم يخرج ; لأن طول السجن حد . قال ابن القاسم : والنفي - عندنا - إلى أسوان ، قال : ويضيق عليه في السجن ، فلا يدخل إليه إلا وقت طعامه . قال : وأرى إن عوقب بالنفي ، ثم عاد ، حد بالقطع أو القتل ; لأن النفي لم يزجره ، وإن عاد بعد القطع إلى الأمر الخفيف ، ورجي في نفيه صلاحه ، نفذ ذلك ، أو [ ص: 133 ] متماديا على حرابته ، فالقطع أو القتل ، وإن قطع في الثالثة ، قتله في الثالثة أو أبقاه إن ضعف شره . ومتى رجي صلاحه بغير القتل ، لم يقتل .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                في الكتاب : قليل المال دون ربع دينار مثل كثيره في قطع الطريق على مسلم أو ذمي .

                                                                                                                فرع :

                                                                                                                قال : إن تاب قبل القدرة عليه ، سقط الحد دون حق الآدمي في نفس ، أو جرح ، أو مال . وللأولياء العفو أو القتل فيمن قتل ، وكذلك الجراح ، فإن كانوا جماعة ( قتلوا رجلا ، ولي أحدهم قتله ، وأعانه الباقون ) ، قتلوا كلهم ، وإن تابوا قبل أن يؤخذوا ، فللولي ما تقدم من العفو والقصاص ، ويأخذ الدية متى شاء . وقد قتل عمر - رضي الله عنه - ربيئة كان ناطورا للباقين ، فإن ولي أخذ المال والباقون له قوة ، واقتسموه ، وتاب بعض من لم يل أخذ المال ضمن جميع المال ، وإن تابوا معدمين ، فهو دين عليهم ، وأن أخذوا قبل التوبة ، وحدوا ، أخذت أموال الناس من أموالهم ، وإن لم يكن له مال لم يتبعوا ، كالسرقة . ويمتنع عفو الأولياء في الدماء والأموال ، وعفو الإمام إذا أخذوا قبل التوبة : وتحرم الشفاعة ; لأنه حد بلغ الإمام ، وإن تابوا قبل القدرة عليهم وقد قتلوا ذميا ، فعليهم ديته لأوليائه ; لأنه لا يقتل مسلم بذمي ، وإن كان ذميا أقيد منه . وتعرف توبة المحارب الذمي بترك ما كان فيه قبل القدرة عليه ، وإن كان في الذمة نساء فهن كالرجال ، ولا يكون [ ص: 134 ] الصبي محاربا حتى يحتلم . قال ابن يونس ، قوله : أخذت أموال الناس من أموالهم : يريد إن كان يسرهم متصلا من يوم أخذ المال ، فإن لم يكن يومئذ ، قال : لم يتبعوا بشيء كالسرقة ، قال اللخمي : يسقط الحد لقوله تعالى : ( إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ) . والأحسن عند مالك في توبة المحارب : أن يأتي السلطان ، وتصح عند جيرانه باختلافه للمسجد حتى تعرف توبته ، وقال عبد الملك : لا يكون إتيانه للسلطان تائبا توبة ، لقوله تعالى : ( من قبل أن تقدروا عليهم ) ، فإن امتنع بنفسه حتى أعطي الأمان ، فقيل : ينفعه كالكافر ، وقيل : لا ينفعه كالمرتد ، ولا بد من حق الله عز وجل . ولا يكون الأمان توبة وإن سأله ; لأن تأمين الكافر ليس إسلاما ، فإن قال الوالي لأحدهم : لك الأمان على أن تخبرني ما صنعتم ومن كان معكم ، لا يؤاخذ بإقراره ، ( قاله أصبغ ) ، قال وأرى أن يلزمه إقراره ; لأنه ليس مكرها ، وإذا تاب - وهو عبد - وعفا الأولياء ، فهي جناية في رقبته ، وإن خرج المحارب لم يقتص منه ، وإنما هو قطع أو قتل ، وكذلك إن قتل ليس للولي عفو ولا قود ، بل الإمام يقيم الحد ، وإن رأى الإمام أن لا يقتلهم ، ومكن أولياء المقتول منهم ، فعفوا بعد ذلك ، واقتص منهم ، وهذا إذا قتلوا حرابة ، وأما غيلة ، فينفذ العفو عند ابن القاسم على مال وغير مال ، ولا ينقض الحكم ; لأنه موطن خلاف . وعن ابن القاسم : ذلك في قتل الحرابة ، ولا ينقض الحكم ، وعن أشهب : لا يقتل في الجماعة إلا القاتل ، أو معين ، أو ممسك أمسكه وهو يعلم أنه يريد قتله ، وغيرهم يضرب عليه ويحبس سنة ، وقول عمر - رضي الله عنه - : لو اجتمع عليه أهل صنعاء لقتلتهم ، كان في الغيلة ، وقال عبد الملك : إن كانوا لا يعدون على المال إلا بالكثرة ، ضمن بكل واحد الجميع ، أو [ ص: 135 ] يقوى عليه الواحد والاثنان ، فحصة كل واحد فقط ، وإنما فرق بين قتل القدرة وبعدها ; لأن قبلها قبول التوبة منه ترغيب له ، وحسم لفساده ، وبعدها هو عاجز ، فيؤخذ منه حق الله ; وزجرا لأمثاله . وعندنا حقوق الله تعالى لا تسقط بالتوبة كالسرقة ، والخمر ، والزنا ، وقاله ( ح ) وعند ( ش ) قولان ، واشترط في السقوط ، مضي مدة تظهر فيها التوبة ، ومنهم من قدرها بسنة ، ومنهم من قال : بل مدة لو لم يكن تائبا فيها لباشر المعصية ، وحصل الاتفاق في الحرابة قبل القدرة . لنا : النصوص المقتضية للحدود ، وقوله - عليه السلام - في ماعز : ( إنه تاب ورجم ) ، ولم يوجب - عليه السلام - على راجمه شيئا ، وقال في الغامدية : ( تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له ) ، ورجمها - عليه السلام - وأقول : لو سقط لسقط بالتوبة في الحال ، كالمقذوف والمحارب ، لكن المدة معتبرة ، فلا تكون مستقبلة ، وقياسا على القذف . واحتجوا بالقياس على الحرابة قبل القدرة ، وعلى الردة ، والفرق أن مفسدتها عظيمة ، فرغب في ترك ذلك بأن جعلت توبتهما تزيل حدهما ; ترغيبا في التوبة منهما ، بخلاف الزنا والخمر ، وأما بعد القدرة في الحرابة : فلتعلق حق الآدمي بها كالقذف . في المقدمات : في صفة التوبة ثلاثة أقوال : أن يترك ما هو عليه وإن لم يأت الإمام ، أو يكفي إلقاء السلاح ويأتي الإمام طائعا ، ( قاله ابن القاسم ) ، والثاني : يترك ما هو عليه ، ويجلس في موضعه ، وتظهر توبته لجيرانه ، وأما إن ألقى السلاح وأتى الإمام وحده فإنه يقيم عليه حد الحرابة ، إلا أن يترك قبل إتيانه ما هو عليه ، ( قاله عبد الملك ) ، الثالث : إنما تكون بإتيانه الإمام ، فإن ترك ما هو عليه لم يسقط الحد ، وفيما يسقط عنه بالتوبة أربعة أقوال : الحد فقط ، [ ص: 136 ] والحد وحقوق الله تعالى من الزنا ، والسرقة ، والخمر ، دون حقوق الناس ، ويسقط ذلك مع الأموال ، إلا ما وجد بعينه رد ، ويسقط مع الدعاء ، إلا مال وجد بعينه .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية