الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                الأثر الخامس ، المرتب على الجناية : غرة الجنين ، ووافقنا فيه ( ش ) وأحمد ، وقال ( ح ) : لا شيء فيه . لنا : ما في الصحيحين ، ( أن امرأتين اقتتلتا فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها ، وما في بطنها ، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها عبد أو أمة ، وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثها ولدها ومن معهم ) وعن عمر رضي الله عنه أنه استشار الناس في إملاص المرأة ، فقال المغيرة بن شعبة : شهدت النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة . فقال : لتأتيني بمن يشهد معك ، فشهد له محمد بن مسلمة ، احتجوا : بأنه عضو [ ص: 402 ] من أعضائها ، ولو قطع يدها بعد موتها لم يلزمه شيء ; ولأنه يجوز أن لا يكون من فعل الضارب بل من ألم موت أمه ، فلا تعمر الذمة بالشك .

                                                                                                                والجواب عن الأول : أنه ينتقض بما إذا ألقته حال الحياة لا يعطى حكم عضوها اتفاقا ، ولأنها لو استحق دمها لم تقتل حتى تضعه ، بخلاف أعضائها .

                                                                                                                وعن الثاني : أن الأصل : إضافة الحكم للسبب الظاهر ، وهو الضربة ، والأصل عدم غيره ، وفي هذا طرفان :

                                                                                                                الطرف الأول : في الموجب ، وفي الجواهر : هو جناية توجب انفصال الجنين ميتا في حياة أمه ، قال الأستاذ : الاعتبار في وجوب غرته بحياتها ، وفي كمال ديته بحياته ، فإن لم ينفصل حتى ماتت الأم فلا شيء فيه ، وإن انفصل بعد موتها فكذلك . وقال أشهب : إذا انفصل بعد موت الأم وجبت الغرة ، وإن انفصل حيا فاستهل ، والجناية خطأ ، وتراخى الموت عن الاستهلال : فالواجب الدية بقسامة ، أو عقيب الاستهلال : فقال أشهب : لا يفتقر استحقاق الدية إلى قسامة لقرينة الفوت ، وقال ابن القاسم : لا بد من القسامة لاحتمال طريان سبب آخر ، وإن كانت الجناية عمدا فمشهور مذهب مالك : لا قود فيه ; لأن موته بضربة غيره ، وديته في العمد والخطأ على العاقلة . وعن ابن القاسم : إن تعمد الجنين بضرب البطن أو الظهر أو موضع يرى أنه أصيب به ، فالقود بالقسامة ، وأما إن ضرب رأسها أو ثديها أو رجليها : فالدية بقسامة . قال : وإن جرح رأس الجنين وماتت الأم ففي الغرة قولان ، وفي الكتاب : إذا ضربت امرأة عمدا أو خطأ فألقت جنينا ميتا ، فإن علم أنه حمل ولو مضغة أو علقة أو مصورا ذكرا أو أنثى ، فالغرة بغير قسامة في مال الجاني ، ولا تحمله العاقلة ، ولا شيء فيه حتى يزايل بطنها . في النكت : إن خرج حيا ولم يستهل فقتل فلا قود ، بل الغرة ، وعلى قاتله [ ص: 403 ] الأدب ، كما إذا ضرب بطنها فألقته ميتا ولم يستهل صارخا ; لأنه يقاد منه في الأجنبي . قال بعض الشيوخ : إذا استهل الجنين المضروب خطأ فوجبت الدية ( بقسامة ، فامتنعوا من القسامة ، فلهم الغرة كمن قطعت يده ثم برأ منها فمات فلهم الدية ) بالقسامة ; فإن أبوا فدية اليد أو الجرح ، قال : وهذا غير مستقيم ، بل لا غرة ; لأنه بالاستهلال صار من جملة الأحياء ، وزالت ديته عن الغرة ، فإن نكلوا فلا شيء لهم ، قال ابن يونس الاستهلال : الصياح دون العطاس ; لأنه يكون عن روح مختصة ، وقال ابن وهب : العطاس والرضاع استهلال .

                                                                                                                الطرف الثاني : في الموجب . وفي الكتاب : استحسن مالك الكفارة في الجنين . وكذلك العبد والذمي فيهما الكفارة ، وإن ضربها فماتت وخرج بعد موتها ميتا لا غرة فيه ; لأنه مات بموت أمه ، وإن ضرب بطنها فألقت جنينا حيا ثم ماتت بآخر في بطنها ومات الخارج قبل موتها أو بعد فلا شيء في الذي لم يزايلها ، والذي استهل فيه الدية بالقسامة ، وإن لم يستهل فالغرة . وإن خرج الجنين ميتا أو حيا فمات قبل موت أمه ، وماتت بعده ورثته ، وإن ماتت وقد استهل صارخا ثم مات بعدها ورثها ، وإن خرج ميتا ثم خرج آخر بعده حيا أو قبله ، أو ولد أب ولد من امرأة أخرى فعاش أو استهل ثم مات وقد مات الأب قبل ذلك : فللخارج حيا ( ميراثه من دية الخارج ميتا ; لأن المولود إذا خرج حيا ) ورث أباه وأخاه الميت قبل ولادته ، وإن ضرب الأب بطن امرأته خطأ فألقت [ ص: 404 ] جنينا ميتا : لم يرث الأب من دية الجنين شيئا ، ولا يحجب وميراثه من سواه ، وإن ضرب بطن امرأته خطأ فألقت جنينا فاستهل ومات ، ففيه القسامة والدية ، أو عمدا فالقود بالقسامة إن تعمد ضرب بطنها خاصة ، ولا قسامة في الجنين الخارج ميتا ; لأنه كرجل ضرب فمات ولم يتكلم ، وإن صرخ فمات فكالمضروب يعيش أياما ففيه القسامة لعله مات لعارض بعد الضربة ، وإن ضرب مجوسي أو مجوسية بطن مسلمة خطأ فألقت جنينا ميتا حملته عاقلة الضارب ، أو عمدا ففي مال الجاني ، وفي جنين أم الولد من سيدها ما في جنين الحرة ; لأنه حر ، وجنين الأمة من غير السيد ( عشر قيمة أمه ، كان أبوه حرا أو عبدا ; لأنه بنسبة الخمسين دينارا إلى جملة الدية ، واعتبر بالأم ; لأنه كزوجها ، وفي جنين الذمية عشر دية أمه ، أو نصف ) عشر دية أبيه ، وهما سواء ، والذكر والأنثى سواء وإن أسلمت نصرانية حامل تحت نصراني ، ففي جنينها ما في جنين ( أم الولد من سيدها ) النصراني وهو عشر دية أبيه ، وإن استهل صارخا ثم مات حلف من يرثه يمينا واحدة ويستحقون الدية على من قتله ; مسلما كان أو نصرانيا ، وإن تزوج عبد مسلم نصرانية ففي جنينها ما في جنين المجوسي ، وإن أسلمت مجوسية حامل تحت مجوسي ، ففي جنينها ما في جنين المجوسي : أربعون درهما ; لأنه على دينه . قال مالك : والحمران من العبيد أحب إلي من السودان ، فإن قلوا بتلك البلدة فالسودان ، والقيمة في ذلك خمسون أو ستماية [ ص: 405 ] درهم ، وليست للقيمة سنة مجمع عليها بل استحسان ; لأنها نصف العشر ، وهو أصل المقدرات في الموضحة ، فإذا بذل الجاني عبدا أو وليدة جبروا على أخذه إن شاءوا ، أو خمسين أو ستمائة ، وإلا فلا يجبروا ، وليس على أهل الإبل في ذلك إبل ، وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغرة والناس يومئذ أهل إبل .

                                                                                                                في التنبيهات : الغرة لغة النسمة كيف كانت عبدا أو أمة ، من غرة الوجه ، كما تسمى ناصية ورأسا ، وقد تكون من الحسن ، والإنسان أحسن الصور . وقيل : معناه : الأبيض ، قاله أبو عمر ، ومنه غرة الفرس ، والغر المحجلون من آثار الوضوء ، ويصلح أن يكون مستند مالك في اختياره الحمران لأنهم البيض ، قال : رويناه عبدا أو وليدة ، بالتنوين وعدم الإضافة وهو الصواب ، وأكثر الشيوخ رووه بالإضافة ، قال اللخمي : قال ابن فارس : غرة كل شيء أكرمه ، والأحمر أكرم من الأسود ، ومقصود الحديث : أعلى ما يرى للخدمة لا للفراش ; لأن المقصود تعويض نفس بنفس ، وهو حكمة العشرة . قال مالك : وقيمة الخمسين وست المائة ليست سنة ثابتة ، قال محمد : كالسنة الثابتة ، وهي على أهل الذهب خمسون دينارا ، وعلى أهل الورق ستمائة ألف درهم ، وعلى أهل الإبل خمس فرائض : بنت مخاض ، وبنت لبون ، وابن لبون ، وخلفة ، وجذعة . قال أشهب : لا يؤخذ من البادية إلا الإبل . وعن ابن القاسم : قولان ، والذي في المدونة أنها ليست عليهم إبلا ، وأنكره محمد عليه ، وقال : لم جعل على أهل الذهب الذهب ، وعلى أهل الورق الورق ؟ ومقتضى قول مالك وابن القاسم وأشهب : أن [ ص: 406 ] الجاني مخير بين الغرة وعشر دية الأم من كسبهم ; كالدية ، واعتباره القيمة : خمسين أو ستمائة درهم مشكل ; لأن الحديث جاء بالغرة ، وأثمان العبيد في البلاد تختلف وتتغير الأسواق بالزيادة والنقص ، فإن وجدت بعشرين لم يكن أكثر من ذلك ، أو بسبعين أجبر على إحضارها ، ولا يقبل منه خمسون ; لأنه دون العشرة ، وقوله : له أن يأتي بالعين بدل الغرة مشكل ; لأن الحديث إنما جاء بالغرة ، واختلف في سبعة مواضع : الدم المجتمع هل له حكم العلقة ؟ وإن تحرك بعد الوضع ، أو عطس ، أو ارتضع ولم يستهل ، هل فيه الغرة أو الدية ؟ وإن استهل ومات بالحضرة ، هل الدية بقسامة أو بغير قسامة ؟ وهل في عمده إذا استهل قصاص ؟ وإن خرج بعد موت أمه : هل فيه غرة أو يبطل ؟ وهل الغرة في مال الجاني أو العاقلة ؟ وهل أورثها الأبوان أم الأم وحدها ؟

                                                                                                                ففي المدونة : في الدم المجتمع : الغرة ; لانتقاله عن النطفة ، وخالفه أشهب ، وقال مالك في المتحرك إن لم يستهل : ليس بحي ، قال ابن حبيب : وإن أقام يتحرك ويفتح عينيه حتى يسمع صوتا وإن خفي ، وقال ابن وهب : الرضاع كالصراخ يعتبر ، وقيل : تعتبر الحركة فقط ، ومتى طال الرضاع لم يختلف فيه ، وقال ابن القاسم : إن استهل ومات بالحضرة لم يستحق الدية إلا بقسامة والقود ، وخالفه أشهب في الوجهين ، وقال ابن القاسم : إذا طرح بعد موت الأم لا شيء فيه ; لأنه مات بموتها ، وعن مالك في المدونة : لا تحمل العاقلة الغرة كالموضحة بجامع العلة فيه ، وعنه في غيرها تحملها كالدية ; لأنها دية كاملة كدية المجوسي ، فهي دية نفس ، وقال مالك ميراثه من أبويه : الثلثان والثلث ، فإن كان له إخوة فلأمه السدس ، والباقي للأب ، [ ص: 407 ] وأحد قولي ابن القاسم : إنه للأم خاصة ; لأنه خرج منها أو عضو ، ولأن الحرة ولدها من العبد حر ، وعكسه ، وهو يرجح الأم في الولد ، ولأن الغرة عشر قيمة الأم لا الأب ، وإن مات قبل أن يبين ثمنها : فلا شيء فيه ، ومقتضى كونهما شخصين : أن فيه القيمة وإن لم يبق . قال اللخمي : وهذا القول أبين . وقال أشهب : في ولد الذمية من العبد المسلم عشر دية أمه ، وترثه أمه وإخوته لأمه . قال محمد : وهو غلط ، لا شيء للأم ، ولا للنصراني ، ولا للعبد من دية المسلمين ، بل من يرثه سواهم من المسلمين ، فإن لم يكن أحد فبيت المال ، ويختلف الجنين باختلاف أحواله في الحرية والإسلام ، ففي جنين الحرة المسلمة من الحر المسلم غرة ، وكذلك والزوج عبد مسلم ، وفي جنين الذمية النصرانية من النصراني غرة دية أمه ، كان الزوج حرا أو عبدا ، فإن كان زوجها حرا مسلما فغرة ، أو عبدا مسلما فغرة عند ابن القاسم ; لأنه في حكم الحر من قبل الأم ، وفي حكم المسلم من قبل الأب ، وعن أشهب : عشر دية أمه ، وإن كان الزوج حرا نصرانيا فأسلم ; ففيه غرة ، وإن لم يسلم وأسلمت هي : فقولان ( مبنيان على أن ولد النصرانية مسلم بإسلام الأم أم لا ، وإن كان زوج النصرانية مجوسيا فقولان : ) أربعون درهما على حكم الأب ، أو عشر دية أمه ، وفي جنين المجوسية من المجوسي أربعون درهما ; فإن كان الزوج نصرانيا . فقولان : نصف الغرة على حكم الأب ، وأربعون درهما على حكم الأم ; فإن أسلم الأب فغرة ، كان الأب مجوسيا أو نصرانيا ، واختلف إذا أسلمت الأم : هل أربعون درهما على حكم الأب ، أو غرة على حكم الأم ، وفي جنين الأمة من سيدها غرة ، وفيه من غرة زوج حر أو عبد أو كانت حاملا من زنا . قال مالك : عشر قيمتها ، وابن وهب : ما نقصها بناء على أنه من خراجها ، قال ابن يونس : قال [ ص: 408 ] محمد : إذا غلت الحمران فالوسط من السودان ، وقال : ( ح ) : قيمة الغرة خمسون دينارا أو خمسمائة درهم ; لأن الدية عنده عشرة آلاف ، وأما ( ش ) : ( قيمة الغرة الدية عنده قيمة الإبل ما بلغت ، فالغرة عنده بنت سبع سنين أو ثمان ; سالمة من العيوب ; لأنها تستغني بنفسها دون هذا السن ، ولا يفرق بينها وبين أمها ، فإن لم توجد الغرة هكذا فقيمتها ، وقال ( ش ) و ( ح ) : هي على العاقلة .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                في المنتقى : إذا قلنا : لا يجب فيه شيء إذا خرج بعد موتها فخرج بعضه ثم ماتت ، قال الشيخ أبو إسحاق : لا شيء فيه ; لأنه لم يفارقها إلا بعد الموت ، وقيل : فيه غرة مراعاة الابتداء .

                                                                                                                فرع

                                                                                                                في النوادر : إن ألقت جنينين فغرتان ، وإن استهلا فديتان .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية