الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                السابقة الثالثة : الميقاة المكاني ، وفي ( الجواهر ) : هو ذو الحليفة ، للمدينة ، والجحفة ، للشام ومصر ، ويلملم ، لليمن ، وقرن لنجد ، وذات عرق للعراق ، وهو معتبر لأهل مكة في الحج لا في العمرة ولا في القران ، وقيل : يعتبر في القران ، ويعتبر الآفاقي مطلقا ، فإن جاوزه ضرورة ففي إيجاب الدم عليه - وإن لم يرد حجا ولا عمرة - خلاف مبني على وجوب الحج على الفور أو التراخي والعمرة كالحج [ ص: 206 ] في الميقاة في حق المقيم ، والآفاقي عليه الخروج إلى طرف الحل ، فإن لم يفعل حتى طاف وسعى لم يعتد بعمرته ; لأنه لم يجمع بين الحل والإحرام ، والحاج جامع بينهما بسبب الوقوف بعرفة ، والأفضل للمعتمر الإحرام من الجعرانة أو التنعيم ، وفي ( الجلاب ) : لا بأس بإحرام المكي بالقران من مكة ، ومنعه ابن القاسم اعتبارا بالعمرة ، والأصل فيه : ما في ( الصحيحين ) : قال ابن عباس : ( وقت النبي عليه السلام لأهل المدينة : ذا الحليفة ، ولأهل الشام : الجحفة ، ولأهل نجد : قرن المنازل ، ولأهل اليمن : يلملم ، قال : هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة . فمن كان دونهن : فمن أهله ، حتى أهل مكة يهلون منها .

                                                                                                                زاد مسلم : ويهل أهل العراق من ذات عرق ) وهذا وإن كان بلفظ الخبر ، فمعناه : الأمر ، لاستحالة الخلف في خبر المعصوم . والأمر للوجوب ، فلا تجوز مجاوزة الميقات لغير عذر .

                                                                                                                فائدة : يروى أن الحجر الأسود في أول أمره كان له نور يصل آخره إلى هذه الحدود ، فلذلك منع الشرع من مجاوزتها لمن أراد الحج تعظيما لتلك الآثار .

                                                                                                                قال سند : ويستحب لمن جاوز ميقاته لا يريد الحج . ثم أراده : أن يرجع إليه ، وذو الحليفة ، جميع الوادي ، والمستحب : المسجد ، ولمالك ، في مجاوزة المريض ذا الحليفة إلى الجحفة قولان ، ومن كان منزله دون الميقات فسافر إلى ورائه ، ثم رجع يريد الدخول مكة ، فله الإحرام من الميقات ، ومن منزله ، كما يؤخر المصري من ذي الحليفة إلى الجحفة ولا يؤخره إلى مسكنه ، إن كان بمكة ; لأنه لا يدخل إلا بإحرام ، ويتعين عليه الميقات .

                                                                                                                وقال ( ش ) : إهلال أهل العراق من ( العقيق ) لقول ابن عباس : وقت [ ص: 207 ] عليه السلام لأهل المشرق : العقيق وجوابه : إجماع الناس على أنهم إذا جاوزوه إلى ذات عرق لا دم عليهم ، فلو كان ميقاتا لوجب الدم ، وإن كان منزله بين ميقاتين فميقاته منزله ، قاله مالك ; لأن المواقيت لأهلها ولمن مر عليها ، وهذا ليس منهما فلا يؤمر ، لكن منزله حذو ميقات ، ومن مر على غير ميقات اعتبر محاذاته للميقاة ، كما أنه لما لم يبلغ عمر - رضي الله عنه - الحديث في ذات عرق جعلها ميقاتا بالاجتهاد لمحاذاتها ( قرن ) . وقاله الأئمة ، ومن أتى في البحر إلى ( جدة ) من مصر ونحوها : قال مالك : يحرم إذا حاذى الجحفة ، قال : وهذا إذا سافر في بحر ( القلزوم ) لأنه يأتي ساحل الجحفة ، ثم يخلفه ، ولم يكن السفر من ( عيذاب ) معروفا حينئذ ; لأنها كانت أرض مجوس ، فمن سافر في البحر منها فعلى حسب خروجه للبر ، إلا أن يخرج أبعد من ميقاة أهل الشام أو أهل اليمن ، ولا يلزمه الإحرام في البحر متحريا الجحفة لما فيه من التغرير برد الريح فيبقى عمره محرما حتى يتيسر السفر السالم ، وهذا حرج عظيم ، ولا يختلف في دفع الحرج بترك الإحرام إلى البر ، وإذا ثبت الجواز فلا يجب دم لعدم الدليل عليه ، وإنما أوجبناه في بحر القلزوم لتمكنه من البر والإحرام من الجحفة ، وهل يحرم إذا وصل إلى ( جدة ) لانتقاء الضرورة ، أو إذا سار منها ؟ وهو الظاهر ; لأن سنة الإحرام عند ابتداء السير .

                                                                                                                فروع سبعة : الأول : في ( الكتاب ) : يستحب لأهل مكة ولمن دخلها بعمرة : أن يحرم بالحج من المسجد الحرام ، فإن كان من المعتمر الآفاقي سعة : فالمستحب : خروجه لميقاته ، والأفضل لأهل الشام ومصر والمغرب : التأخير لذي الحليفة ; لأنه ميقاته عليه السلام وهو طريقهم ، فإن مروا من العراق ، فمن ذات عرق ، وكذلك سائر الآفاق إذا مروا بغير مواقيتهم أحرموا منه إلا ذا الحليفة [ ص: 208 ] كما تقدم ، قال سند : قد أحرمت عائشة - رضي الله عنها - بالحج من مكة ، وروى أشهب : يحرم من جوف المسجد لا من بابه ، بخلاف مسجد ذي الحليفة يحرم من بابه ; لأن التلبية لا يكره إظهارها في المسجد الحرام ; لأنه موضع شعار الحج ، وروى ابن حبيب : من باب المسجد ; لأن المساجد لم توضع إلا للصلاة ، ومن أحرم من منزله فالإبعاد أفضل له .

                                                                                                                الثاني : في ( الكتاب ) : من جاوز الميقات يريد الإحرام جاهلا رجع فأحرم منه ، ولا دم عليه ، فإن خاف فوات الحج ، أحرم من موضعه وتمادى وعليه دم ; لأن محظورات الحج تستباح بالضرورة ، ويلزم الدم كاللباس والطيب ، ولو أحرم بعد مجاوزة الميقات وليس مراهقا لم يرجع وعليه دم ، وقال ( ش ) و ( ح ) : يرجع كالمكي إذا أحرم بعمرة من مكة ثم رجع إلى الحل ، والفرق : إن الحل شرط في الإحرام بخلاف الميقات ، ولذلك فإن طاف الحاج لا يرجع وفاقا ، قال سند : فلو رجع بعد إحرامه لا يسقط الدم عنه عندنا وعند ابن حنبل ، وقال ( ش ) و ( ح ) : يسقط قياسا على ما إذا أحرم من الميقات ابتداء . لنا : ( إنه عليه السلام أحرم من الميقات وقال : خذوا عني مناسككم ) وقال : ( من ترك نسكا فعليه دم ) وقد ترك نسكا فلا يبرئه من الدم إلا إراقته كسائر الواجبات ، فلو أراد رفض إحرامه وابتدأه من الميقات لم يرتفض عند مالك والأئمة .

                                                                                                                [ ص: 109 ] والمذهب : أن هذه المواقيت تحديد لظاهر الحديث ، وقال ابن حبيب : تقريب ، فإذا أحرم قريبا منه فلا دم عليه .

                                                                                                                الثالث : في ( الكتاب ) : من أهل من ميقاته بعمرة وأردف الحج بمكة أو قبلها فلا دم عليه ; لأنه لم يترك الإحرام من الميقات ، ومن جاوز ميقاته لا يريد إحراما ثم أراده ، أحرم من موضعه ولا دم عليه ، وقاله الأئمة لما في ( الموطأ ) أنه عليه السلام تجاوز ميقاته وأحرم بعمرة من ( الجعرانة ) ومن تعدى الميقاة ضرورة ، ثم أحرم لزمه الدم ، ومن تعدى الميقات فأحرم بالحج ثم فاته فلا دم عليه لترك الميقات ; لأنه يقضي الحج ، وإن أفسده بجماع فعليه دم الميقات لوجوب التمادي ، قال سند : وقال أشهب : لا يسقط الدم بالفوات ; لأن انقلاب الحج إلى العمرة كانقلاب العمرة إلى الحج إذا جاوز الميقات يريد العمرة ثم أحرم بها ثم أردف الحج فإنه لا يسقط عنه الدم ، ورأى ابن القاسم أن الدم المتعلق ببعض الإحرام فرع إتمامه ; لأنه لو فعله قبل ذلك لم يجزه .

                                                                                                                الرابع : في ( الكتاب ) : دم تعدي الميقات يجزئ فيه الصوم إن تعذر ، بخلاف الإطعام ; لأنه لترك نسك ، كترك المبيت ودم القران ، وهو مرتب كدم التمتع بخلاف دم المحظورات على التخيير .

                                                                                                                الخامس : في ( الكتاب ) : إذا أحرم من خارج الحرم مكي ، أو متمتع فلا دم عليه ; لأنه لم يجاوز الميقات إلا محرما ، فإن مضى إلى عرفات ولم يدخل الحرم - وهو مراهق - فلا دم عليه ، فإن أحرم المكي بالحج من الحل أو التنعيم ، أو غير المكي فعليه أن يطوف ويسعى قبل الوقوف فإن لم يكن مراهقا ، بخلاف من أحرم بالحج من الحرم ، ومن دخل مكة غير محرم متعمدا أو جاهلا أساء ولا شيء عليه ، قال سند : إن كان يريد النسك وجب الإحرام من الميقات ، [ ص: 210 ] وإن لم يرد وخاف ضررا شديدا مثل دخوله لقتال البغاة ، أو يخاف من سلطانها ، فلا يكره له دخولها حلالا . في ظاهر المذهب لجوازه مع عذر التكرار ، فأولى الخوف ، وقاله ( ش ) ، ولدخوله عليه السلام عام الفتح حلالا . سؤال ، قال صلى الله عليه وسلم : ( مكة حرام ، ولا تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار ) يقتضي بطلان ما ذكرتموه .

                                                                                                                جوابه : إنه عليه السلام إن كان آمنا فذلك خاص به ، وإن كان خائفا فالإشارة إلى صفته ، أي أحلت لمن كان بصفتي ، ويدل على التخصيص دخول الحطابين ونحوهم . وفي ( الجواهر ) : يحرم على غير المترددين دخولها حلالا وإن لم يرد نسكا ، وقيل : يكره ، وقال أبو مصعب : يباح ، وجوز ( ح ) لمن كان دون الميقات الدخول بغير إحرام ، ومنع من قبل الميقات ، وجعل الحرمة للميقاة ، وهو باطل ; لأن حرمة الميقات لحرمة الحرم ، والإحرام تحية مشروعة لبقعة مباركة فلا بد منها ، قال سند : وإذا أوجبنا الدم فهو لمجاوزة الميقات عند مالك ، ولدخول مكة حلالا عند محمد ، وفائدة الخلاف فيما إذا تجاوزه ثم أحرم قبل مكة ، وأما الداخل في الحطابين والصيادين والفكاهين ممن يشق عليهم تكرار الإحرام فيدخلونها بغير إحرام ، وألحق بهم سحنون من دخل بعمرة فحل منها ثم خرج ينوي الرجوع للحج بجامع التكرار ، وإذا قلنا : لا دم على داخل مكة غير محرم فأراد الحج خرج لميقاته .

                                                                                                                فإن أحرم من مكة فلا دم عليه ; لأن له حكم أهل مكة .

                                                                                                                السادس : في ( الكتاب ) : يجوز للسيد إدخال رقيقه مكة بغير إحرام ، وإن أذن السيد في الإحرام بعد ذلك فلا دم وقاله ( ش ) ; لأن حق السيد في الملك أسقط الحج فأولى ما يترتب عليه ، ولو أسلم نصراني ، أو أعتق عبد ، أو بلغ [ ص: 211 ] صبي بعد دخول مكة فأحرموا حينئذ فلا دم للميقات ، وقال ( ح ) ، وقال ( ش ) وابن حنبل : على الكافر الذي أسلم الدم ، لنا : أنه قام به مانع الحج فأشبه المجنون .

                                                                                                                السابع : في ( الكتاب ) : يكره الإحرام قبل الميقات ، وقال ( ش ) و ( ح ) : الأفضل أن يحرم من بلده ; لأن عمر وعليا - رضي الله عنهما - قالا في قوله تعالى : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) . ( البقرة : 196 ) أن تمامها أن تحرم بها من دويرة أهلك . وفي أبي داود قال عليه السلام : ( قال من أحرم من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام بحج أو عمرة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، أو وجبت له الجنة ) لنا : أنه عليه السلام لم يحرم إلا من الميقات ، وقال : ( خذوا عني مناسككم ) وقياسا على ميقات الزمان ، أو لأنه خلاف النص في تحديد المواقيت ، وما رووه أمكن حمله على النذر جمعا بين الأدلة .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية