الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                المقصد الثاني : دخول مكة ، وفي ( الجواهر ) : يغتسل بذي ( طوى ) ويدخلها من ثنية ( كداء ) بفتح الكاف والمد ، وهي الصغرى التي بأعلى مكة ، [ ص: 235 ] ويهبط منها على الأبطح ، والمقبرة فيها على يسارك وأنت نازل منها ، ويخرج من ثنية ( كدي ) بضم الكاف وفتح الدال وتشديد الياء على التصغير ، وهي الوسطى التي بأسفل مكة ، لما في ( الموطأ ) أنه عليه السلام ( كان يدخل مكة من الثنية العليا ، ويخرج من الثنية السفلى ) وروي الفتح في كاف الاثنين ، والسر في هذا الدخول : أن نسبة باب البيت إليه كنسبة وجه الإنسان إليه ، وأماثل الناس ، إنما يقصدون من جهة وجوههم لا من ظهورهم ، ومن أتى من غير هذا الوجه لم يأت من قبالة الباب ، ثم يدخل المسجد الحرام من باب بني شيبة ; لأنه قبالة البيت ، فيأتي الركن الأسود ; لأن جنبي الباب كيمين الإنسان ويساره ، فالذي يقابل يمين المستقبل للبيت يسار البيت ، ويمين البيت قبالة يسار المستقبل له ، وفي هذا الموضع : الحجر ، فجعل البداية باليمين لفضله ، أو لفضيلة الحجر في نفسه ، فيبتدئ بطواف القدوم ; لأن القدوم على الأماثل يوجب التحية عليهم ، وبيت الله في أرضه كبيت الملك في دولته ، فشرع الله تعالى طواف القدوم إظهارا لاحترام العبد لبيت الرب ، وتمييزا له عن غيره ، كما شرع الصلاة في دخول المساجد لذلك ، وكذلك شرع طواف الوداع ; لأن القادم ينبغي له السلام إذا فارق ، ولما كان السلام على الله تعالى محالا لكونه سالما لذاته فلا يدعى له بالسلامة ، جعلت الصلاة والطواف بدلا منه ، لتمييز جناب الربوبية عن غيرها ، وفي ( الكتاب ) : يستحب دخولها نهارا لما في ( الموطأ ) : ( أن ابن عمر - رضي الله عنه - كان إذا دنا من مكة بات بذي طوى بين الثنيتين حتى يصبح ، ثم يصلي الصبح ثم يدخل من الثنية التي بأعلى مكة ، ولا يدخل إذا خرج حاجا أو معتمرا حتى يغتسل قبل أن يدخل إذا دنا من مكة بذي [ ص: 236 ] طوى ، ويأمر من معه ، فيغتسلون قبل أن يدخلوا ) . ولما فيه من التمكن من آداب الدخول ، وذو طوى ربض من أرباض مكة في طرفها ، فإذا دخل المسجد استلم الحجر الأسود بفيه إن قدر ، وإلا فليمسه بيده ويضعها على فيه من غير تقبيل ، وإذا لم يصل كبر إذا حاذاه ، ولا يرفع يديه ، وإن شاء ترك جميع ذلك ، ولا يقبل بفيه الركن اليماني ، ولكن يلمسه بيده ويضعها على فيه من غير تقبيل ، وإن لم يستطع كبر ومضى ، وكلما مر به في طواف واجب أو تطوع ( إن شاء استلم أو ترك ، ولا يدع التكبير كلما حاذاه في طواف واجب أو تطوع ) ولا يستلم الركنين اللذين يليان الحجر ، ولا يقبلان ، ولا يكبر إذا حاذاهما ، وأنكر مالك قول الناس إذا حاذوا الركن الأسود : إيمانا بك وتصديقا بكتابك ، ووضع الخدين والجبهة على الحجر الأسود لأنه بدعة ، ويستلمه غير الطائف ، وبعد ركعتي الطواف قبل الخروج إلى الصفا والمروة إن شاء ، وليس عليه أن يرجع من السعي ليستلمه قبل الرواح لمنزله إلا أن يشاء ، قال سند : قال مالك : ويغتسل النساء والصبيان لدخول مكة بذي طوى ، قال ابن حبيب : ويغسل جسده دون رأسه ، وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - ، لا يغسل رأسه وهو محرم إلا لجنابة ، والمعروف من المذهب غسل الجسد والرأس مع الرفق في صب الماء ، قال مالك : ولا تغتسل النفساء ولا الحائض ، وقال ( ش ) : يغتسلان ، لقوله عليه السلام لعائشة - رضي الله عنها - لما حاضت : ( افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ) ولأن مقصوده التطيب ، قال محمد : إن قدم بعد العصر أقام بذي طوى حتى يمسي ليصل بين طوافه وركوعه وسعيه ، فإن دخل فلا بأس بتأخير الطواف حتى تغرب الشمس فيركع ويسعى إن كان بطهر واحد ، فإن انتقض وضوءه أعاد الطواف والسعي ، ويقدم المغرب على ركعتي الطواف ، فإن دخل قبل طلوع الشمس : فالمذهب أنه لا يطوف ، فإن طاف فلا يركع حتى تطلع الشمس ، وجوز مطرف الركوع ، فعلى قوله يدخل فيطوف ، واستحب مالك للمرأة إذا قدمت نهارا أن تؤخر الطواف إلى الليل ، قال مالك : وما سمعت رفع اليدين عند رؤية البيت أو عند الركن ، [ ص: 237 ] واستحبه ابن حبيب لما روي عنه عليه السلام ( أنه كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال : اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ومهابة ، وزد من شرفه وكرمه ممن حج البيت أو اعتمر تشريفا وتعظيما ) وقاله ( ش ) وابن حنبل ، قال مالك : ولا يبدأ في المسجد بالركوع ، ولكن باستلام الركن والطواف ، لفعله عليه السلام ذلك ، وهو متفق عليه ، ولأن طواف القدوم واجب فيقدم على الركوع ، إلا أن يجد الإمام في فرض فيصلي معه ، ثم يطوف ، أو يخاف فوات المكتوبة ، وروي عن مالك و ( ش ) تقبيل يده كما يقبل الحجر ، وحجة المشهور : أن التقبيل في الحجر تعبد ، وليست اليد بالحجر ، حجة ( ش ) : أنه عليه السلام طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن ويقبل المحجن . جوابه : أنه كان يرى يلصق المحجن على فيه فاعتقد تقبيله ، والمحجن عود معقوف الرأس ، ويروى عنه عليه السلام أنه قال : ( الحجر والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة ، فلولا أن الله تعالى طمس نورهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب ) ( وأن الحجر الأسود يجيء يوم القيامة له عينان ولسان يشهد لمن استلمه بحق ) وفي الترمذي : ( أنه من الجنة ، وكان أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم ) وروي ( أنه يمين الله في الأرض ) ومعناه : أنه عهد الله الذي من التمسه كان له عند الله عهد ، ولما كانت العهود عند العرب بوضع اليمين في اليمين من المتعاهدين سمي العهد يمينا ، أو ضرب مثلا للقرب من الله [ ص: 238 ] تعالى ، كما جاء : ( المصلي يسجد على قدم الرحمن ، فمن وصل إلى قدم الملك ، فقد قرب منه ) أو لأنه يمين البيت ، وهو بيت الله تعالى ، وقد أقيم الطواف به مقام السلام عليه ، فلما أقيم البيت مقام ربه أقيم نسبة يمينه إليه ، واختلف في الاستلام فقيل : من السلام بكسر السين التي هي الحجارة ، ولما كان لمسا للحجر قيل له : استلاما ، وقيل : من السلام بفتح السين ، فإن ذلك الفعل سلام على الحجر ، ( وقيل : أصله مهموز استلأم من الملاءمة التي هي الموافقة ، كأنه موافق لتعظيم الحجر ) أو الشرع في تعظيمه .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية