الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                البحث الخامس : في الدواوين وما يتعلق بها ، يروى أن من أول من دون الدواوين في الإسلام عمر - رضي الله عنه - وفي ( الكتاب ) : لا بأس بكتابة الرجل اسمه في ديوان مصر أو الشام أو غيرهما فإن تنازع رجلان في اسم مكتوب في العطاء فأعطى أحدهما الآخر مالا ليترك له ذلك الاسم ، قال ابن القاسم : لا يجوز لقول مالك لا يجوز بيع الزيادة في العطاء بعرض ؛ ولأن المعطى إن كان صاحب الاسم فقد أخذ الآخر حراما ، وإن كان غيره فقد باع ما لم يعلم ، قال ابن يونس : إذا لم يعلم ذلك تحالفا واقتسماه إن رآه الإمام ، ولو كان المتنازع فيه الخروج وليس عطاء ثابتا أخرج الإمام أيهما شاء وأعطاه ذلك ، ومراده في ( الكتاب ) الأعطية الثانية ، وفي ( الكتاب ) : وقد وقف عمر - رضي الله عنه - والصحابة بعده الفيء وخراج الأرضين للمجاهدين ، وفرضوا منه للمقاتلة والعيال والذراري فهو سنة لمن بعدهم ، فمن افترض فيه ونيته الجهاد جاز ، قال ابن جرير : أصحاب العطاء أفضل من المتطوعة لما يرعون ، وقال مكحول : روعات البعوث تنفي روعات يوم القيامة ، قال اللخمي : المستحب أن لا يأخذ أجرا ويغزو لله تعالى خالصا ، فإن أخذ من الديوان جاز إذا كانت جهة تجوز ، وإذا أراد رجلان أن يتطاويا وهما من ماحوزين فيرجع كل واحد منهما إلى ماحوز صاحبه ، جاز إذا أراد ذلك عرفاؤهم ، وفي ( التنبيهات ) : الطوا بفتح الطاء والواو مقصور والماحوز بالحاء المهملة والراء المعجمة ، وفي ( النكت ) الماحوز : الموضع الذي يرابط فيه نحو الإسكندرية والمنستير ، والطوا : المبادلة فإذا كتب الإمام بعضهم للخروج إلى [ ص: 407 ] جهة وبعضهم إلى جهة ، أخبر فيجوز أن يخرج هذا لثغر هذا ، وهذا لثغر هذا ، وفي ( الكتاب ) : يجوز جعل القاعد للخارج من أهل ديوانه ; لأن عليهم سد الثغور خلافا ل ( ش ) و ( ح ) ; لأنه قد مضى الناس على ذلك ، وربما خرج لهم العطاء ، وربما لم يخرج ولا يجعل لغير من في ديوانه ليغزو عنه ، وقد كره إجارة فرسه لمن يغزو عليه ، فإجارة النفس أشد كراهة .

                                                                                                                قاعدة : العوضان لا يجتمعان لشخص واحد ، ولذلك منعنا الإجازة على الصلاة ونحوها لحصولها للمصلي مع عوضها ، وحكمة المعاوضة انتفاع كل واحد من المتعاوضين بما يبذل له ، والجهاد حاصل للمجاهد ، ومقتضى ذلك المنع مطلقا ، وعليه اعتمد ( ش ) و ( ح ) وراعى مالك العمل ، قال يحيى بن سعيد : لا بأس في الطوا أن يقول لصاحبه : خذ بعثي وآخذ بعثك وأزيدك وكذا وكذا وكرهه شريح قبل الكتبة . أما بعدها فهو جائز إلا لمن انتصب ينتقل من ماحوز إلى ماحوز يريد الزيادة في الجعل ، قال ابن يونس : أما إذا لم يتقدم كتبه فلم يجب عليهما خروج فلا فائدة في الإعطاء ، قال التونسي : إذا سمى الإمام رجلا فلا يجعل لغيره الخروج عنه إلا بإذن الإمام ، وإذا قال : يخرج من البعث الفلاني مائة وأعطى بعضهم لبعض جاز ، ولو قال : يخرج جملة بعث الصيف فجعل بعضهم لمن بعثه في الربيع لم يجز إلا بإذن الإمام ; لأنه قد عين ، وهذا جائز إلا لمن أوقف نفسه يلتمس الربح متى وجده خرج فمكروه ، وأما إذا قال : خذ بعثي وآخذ بعثك قبل وقت الخروج فهو الدين بالدين ، قال ابن عمر رضي الله عنهما : من أجمع على الغزو فلا بأس بأخذه ما يعطى ، وقال مالك : لا بأس بالكراء في الغزو إلى القفول من بلد العدو وتوسعة على الناس ; لأن غزوهم معروف .

                                                                                                                البحث السادس : في وجوه القتال ، في ( الكتاب ) : لا بأس بتحريق قراهم وحصونهم وتغريقها بالماء ، وإخرابها وقطع شجرها المثمر ، وقاله ( ش ) ، وقال [ ص: 408 ] الأئمة : يجاز قطع النخل ونحوه ، لما في مسلم أنه عليه السلام حرق نخل بني النضير . ويحمل قول الصديق - رضي الله عنه - على ما يرجى انتفاع المسلمين به ، وإذا كان مسلم في حصن أو مركب لا يحرق ولا يغرق لقوله تعالى : ( لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ) [ الفتح 25 ] ولا يعجبني ذلك إذا كان فيهم ذرية المشركين ونساؤهم ، وإذا خرق العدو سفينة المسلمين جاز خروجهم إلى البحر فرارا من الموت إلى الموت ، ولم يره ربيعة إذا طمع في النجاة أو الأسر ، وقال ربيعة أيضا : الصبر أفضل ، ولا يلقي الرجل نفسه بسلاحه ليغرق بل يثبت لأمر الله تعالى ، وفي ( الجواهر ) : يجوز إرسال الماء عليهم وقطعه عنهم لقوله تعالى : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ) [ الأنفال 60 ] وفي النار خلاف ما لم يكن عندهم أسارى المسلمين فلا يجوز ، ولو تترسوا بالنساء والصبيان تركناهم إلا أن يخاف على المسلمين ، فإن تترسوا بمسلم تركوا ، وإن خفنا على أنفسنا ; لأن دم المسلم لا يباح بالخوف ، فإن تترسوا في الصف ولو تركوا لانهزم المسلمون وخيف استئصال قاعدة الإسلام أو جمهور المسلمين وأهل القوة منهم ، وجب الدفع وسقط مراعاة الترس ، ولا يجوز حمل رءوس الكفار من بلد إلى بلد ولا إلى الولاة ، وقد كرهه الصديق - رضي الله عنه - وقال : هذا فعل العجم ، قال صاحب ( البيان ) : ترمى الحصون بالمنجنيق ، وإن كان فيهم نساء وصبيان فقد رمى أهل الطائف بالمنجنيق ، فقيل له : يا رسول الله ، إن فيهم النساء والصبيان ، فقال عليه السلام : هم من آبائهم ) وإذا لم يكن بالحصن إلا المقاتلة : أجاز في ( الكتاب ) [ ص: 409 ] رميها بالنار ، وروي عنه المنع ، وإذا كان معهم النساء والصبيان فأربعة أقوال : يجوز المنجنيق دون التغريق والتحريق ، وهو مذهب ( الكتاب ) ، ويجوز جميع ذلك عند أصبغ ، ومنع جميع ذلك مروي عن ابن القاسم ، ويجوز التغريق والمنجنيق دون التحريق عند ابن حبيب ، فإن كان معهم أسارى للمسلمين امتنع التحريق والتغريق ، قال ابن القاسم : يجوز المنجنيق وقطع الماء عنهم ، وروي منع ذلك عن مالك وأصحابه المصريين والمدنيين ، وأما السفن إن لم يكن فيها أسارى المسلمين جاز التحريق ، والفرق بينها وبين الحصون أنهم إذا لم يحرقوهم فعلوا بهم ذلك ، وهو متعذر عليهم في الحصون ، فإن كان فيهم الأسارى فمنع ابن القاسم ، وجوز أشهب وإن كان فيهم النسوان والصبيان جاز قولا واحدا ، والمدرك في هذه الأحكام قوله تعالى : ( يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ) [ الحشر 2 ] وقوله تعالى : ( ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين ) [ الحشر 5 ] وقال عليه السلام : ( لا يعذب بالنار إلا رب النار ) ووافقنا ( ح ) في قتل الحيوان الذي يضعف قواهم كالخيل والبغال ، قال المازري ، وقال ابن وهب و ( ش ) : لا يجوز إتلاف الخيل والبغل لعدم المأكلة ، ويجوز إتلاف فرس الفارس تحته بلا خلاف فنقيس عليه وعلى الشجر ، ويفرق الخصم بأن مركوبه آلة للشر بخلاف غيره ، والنبات ليس له حرمة في نفسه بخلاف الحيوان فنقيس على النساء والصبيان ، وعلى المذهب اختار بعض الأصحاب الذبح لبعده عن التمثيل ، ونهى بعض الأصحاب عنه لبعده عن الأكل ويمكن أن تحرق لبعد ذلك عن الأمتعة ، وخير في بعض الروايات بين الذبح والتعرقب ، وأما النحل فنهي عن إتلافه لإ مكان تطيره إلى بلد الإسلام وغيرها كحمام الأبرجة بخلاف المواشي والدواب ، فإن كانت كثيرة تقويهم فروايتان : إحداهما المنع لما روي فيما تقدم ، والجواز كالدواب وأما الحيوان الناطق إن عجز [ ص: 410 ] عن وصوله لبلدنا ترك النساء والصبيان وقتلت الرجال ، إلا أن يكونوا أسقطنا حكم القتل عنهم ، وإذا تركنا الولدان والنسوان والشيوخ في بلد الحرب فهم لمن أخذهم أو في حوزة الإسلام ، فقال ابن حبيب : لا يملكون ، وذلك كالعتق لهم .

                                                                                                                البحث السابع : في المبارزة فيما تجوز الهزيمة ، قال ابن يونس : قال ابن حبيب : اختلف في قوله تعالى : ( الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ) [ الأنفال 66 ] قيل : التخفيف في العدد فلا يفر العدو من مثيله ، وإن كان أشد منهم سلاحا وجلدا إلا أن يكون بأرض الحرب بموضع مددهم فله التولية سعة ، وقيل : ذلك إنما هو في القوة دون العدد ، وهي رواية عبد الملك عن مالك وقوله قول ابن حبيب ، قال : وهذا القول محمول على قول محمد : إن الانحياز إلى والي جيشه الأعظم وتنحاز السرية المتقدمة إلى من خلفها مما يليها ، وإذا نشأ القتال وكان السلطان ضعيفا فله الانحياز أكثر من ثلاثة صفوف ، وإن علموا أنهم يقتلون فالانصراف أحب إلي إن قدروا ، وإلا تلازموا حتى يقتلوا ، وإذا حصرت المدينة فضعفوا ، قال ربيعة : يخرجون للقتال أحب إلي من الموت جوعا ، وإن طمعوا في النجاة وإلا فالصبر أحسن ، قال التونسي : لهم الخروج إلى القتال لعله أروح لهم ، وقد اختلف في المركب تلقى عليها النار هل يلقي الرجل بنفسه ليغرق أم لا ؟ قال ابن حبيب ومحمد : لا تجوز المبارزة بين الصفين إذا صحت النية إلا بإذن الإمام ، قال : ولا بأس أن يعضد إذا خيف عليه ، وقيل : لا يعضد ; لأنه لم يف بالشرط وليس بجيد ; لأنه إذا أخذ وجب فداؤه بالقتال وغيره ، قال صاحب ( البيان ) : إذا حمل الرجل الواحد على الجيش العظيم أراد السمعة فحرام إجماعا ، أو خوف الأسر لإحاطة العدو به فجاز إجماعا ، أو ليلقي الرعب في قلوب الكفار ، والقوة في قلوب المسلمين فكرهه عمرو بن العاص - رضي الله عنه - لأنه ألقى نفسه إلى التهلكة ، ومنهم من استحسنه وهو الصحيح ، وما زال السلف على [ ص: 411 ] ذلك وفي كلام مالك إشارة إلى القولين ، وفي ( المقدمات ) قال ابن القاسم : لا تجوز شهادة الفار من الزحف وإن فر إمامه ، وإن بلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفا لا يجوز التولي ، وإن كان العدو زائدا على الضعف ; لقوله عليه السلام : ( لن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة ) فهذا الحديث مخصص للآية عند أكثر العلماء ، وقيل : إن قوله تعالى : ( ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ) [ آل عمران 111 ] خاص ببدر ، والصحيح تعميمه إلى الأبد .

                                                                                                                فرعان : الأول في ( الجلاب ) : تقام الحدود في أرض العدو ، وقاله ( ش ) ، وقال ( ح ) : كل ما يوجب الحد لا يوجبه إلا مع الإمام نفسه ; لأن ذلك ينفر القلوب ، ويفرق الكلمة ، ويوجب الدخول لدار الحرب والردة ، وجوابه : أن أدلة الوجوب قائمة فتجب ; لأنه من أعظم الطاعات فيكون من أقوى أسباب المعاونات ، وفي ( اللباب ) : إن زنى الأسير بحربية ثم خلص قال ابن القاسم : عليه الحد خلافا لعبد الملك .

                                                                                                                الثاني : قال إمام الحرمين من الشافعية : إذا تيقن المسلمون أنهم لا يؤثرون شيئا ألبتة ، وأنهم يقتلون من غير نكاية العدو ولا أثر أصلا وجبت الهزيمة من غير خلاف بين العلماء ، وهو متجه ، وعلى هذا يمكن انقسام الفرار إلى الواجب والمحرم والمندوب والمكروه بحسب الأمارات الدالة على المصالح وتعارضها ورجحانها .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية